مقالات

متحف (سكين).. تحت سقف الذاكرة : أبو بكر كهّال

24-Feb-2013

hglv;.

كانت المناسبةُ رحلةً إلى مدينة سكين الواقعة في أقصى شمال الدنمارك، حيث تلتقي على شاطئها أمواج بحر «كاتيغات» بأمواج بحر الشمال. قامت بتنظيم الرحلة مدرسة (OAF) بمدينة «بغونسلو»، لتعليم اللغة الدنماركية للواصلين حديثاً إلى تلك البلاد. وكانت ضمن البرنامج الذي تسلّمناه قبل يوم من الرحلة المذكورة، فقرة تشير إلى زيارة متحف «سكين» (Skagen Museum) الخاص بالفن التشكيلي.

منذ تسلُّمي البرنامج حتى ولوجي إلى قاعات العرض كنت أقلب الذاكرة حول حصيلة قراءاتي عن فن التشكيل ورواده في الدنمارك. لم تسعفني الذاكرة إلا بالقليل المتناثر هنا وهناك. ويبدوا أن ما تُمسك به الذاكرة من الحياة والتجارب ليس بالكثرة التي نعتقد.بينما كنا نجتاز الحديقة الأمامية للمتحف نحو المدخل وأثناء تأمُّلنا بتمثال تذكاري نُصب بالحجم الطبيعي وضم شخصيتين، سمعنا «كارين» معلمة «الدنماركية» تقول: «أحدهما هو الفنان (كويا) والآخر (مايكل أنكر)». انفتحت الذاكرة على حقبة بعيدة تعرفت خلالها على هذين الفنانين عبر كتابات وقراءات متعددة حول نتاجهما وموهبتيهما الفذتين.كانت اللحظات الغامرة بالمفاجأة اللذيذة هي تلك التي وقفت فيها وجهاً لوجه أمام عدد من اللوحات التشكيلية عالمية الشهرة، ومن ضمنها تلك «يا له من احتفال» أو «يا لها من حياة» بحسب الترجمة الإنجليزية لاسم اللوحة التي يجسد فيها الفنان كويا (رحل العام 1919) فتاتين تسيران على شاطئ طافح بالزرقة وعلى يسارهما البحر، وظهراهما للمشاهد وقد اكتسيتا بفستانين أبيضين طويلين، بينما اعتمرت إحداهما قبعة دائرية بيضاء. وهناك لوحة «يوم في صيف على الشاطئ الجنوبي ل (سكين)» لكويا نفسه الذي يعدّ أحد أشهر رسامي الدنمارك، وقد نال سمعة فنية بين مجايليه من فناني أوروبا واحتفى النقاد بأعماله. وكان زارَ باريس في العام 1877 وهو في عمر الرابعة والعشرين، ثم زار كلاًّ من إيطاليا وإسبانيا، وكان من أوائل تشكيليي الدنمارك الذين شاركوا في معارض الفن المعاصر في أوروبا، فقد عرض أعماله في برلين، وميونخ، وفينّا، وفي بنيالي البندقية، وفي تلك الفترة عبرت لوحاته المحيطَ إلى أميركا لتُعرَض هناك.هذا هو متحف سكين الذي يُعَدّ ما يضمّه من لوحاتٍ ثروةً فنية حافظ عليها الدنماركيون من غوائل الزمن، وبرعوا في المحافظة عليها وتعهدوا بحمايتها، خصوصاً في حقبة الحرب العالمية الثانية.عندما تدلف إلى قاعات العرض، تحس بالتحرر من غربتك. أنت الآن أمام اللوحات واقفاً على أرض حميمة، لكن ستظل الرهبة رفيقتك وأنت تتنقل بحواسك متطلعاً إلى وجوه الصيادين العتيقة. ستقود خطواتِكَ موسيقى هادئة، وربما راقصتك ظلالُ اللوحات وثنيات الضوء العائد ممّا وراء الغموض، لتجد نفسك في زحمة احتفال بهي في لوحة «الاحتفال» لت (كويا).كان هذا المتحف تأسس في 20 تشرين الأول 1908 في ركن صغير داخل غرفة طعام بفندق «غوندوم»، على يد الصيدلاني فيكتور كرستيان عمانويل. وقد انتُخب الفنان «كويا» لرئاسة أول مجلس فني أوكلت إليه مهمة تجميع أعمال الفنانين إلى جانب جمع الأموال من المتبرعين لتشييد مبنى المتحف، بهدف الحفاظ على تلك الأعمال من الضياع وإبقائها داخل البيئة التى أُنجزت فيها. وضع تصاميمَ تلك الغرفة المهندسان المعماريان «بلسز» و «ثورفالد». أما تصاميم الديكورات فقد قام بها مالك الفندق نفسه الذي كان يتوافر على حسٍّ فنّي. وصممت أثاثَ الغرفة «ماري» زوجة الفنان «كويا». وما تزال تلك الغرفة في موقعها الأول نفسه، وبالتصميم نفسه الذي أنجزته السيدة «ماري».وقد وهبَ معظم الرسامين الذين زاروا المكان عدداً من لوحاتهم للفندق، مما شكّلَ حصيلة معتبرَة من اللوحات، فعمد المالك على وضعها في «إفريز» كُتبت عليه عبارة «تحت سقف الذاكرة». لقد مثلت هذه الغرفة بما كانت توفره من دفء وأُلفة محطةً مهمة في حياة الفنانين على صعيد التعريف بتطور فن الرسم في «سكين» بما مثّلته من مساحة للنقاش والحوارات حول الفن والثقافة عموماً.وبالفعل، ظلت «سكين» منذ العام 1870 وحتى مطلع القرن العشرين، ملتقى محبباً للرسامين، خصوصاً الشباب الذين وجدوا في شخوص الصيادين وأكواخهم الصغيرة على الشاطئ وما تتمتع به المنطقة من مناظر طبيعية ضالَّتهم المنشودة. وقد حققت أعمال تلك الفترة لعددٍ منهم شهرة عالمية، وكانوا دائمي المشاركة في أبرز المعارض المعروفة في الخارج.خلال الفترة (1907-1909) كان قد تيسر لعشاق فن الرسم مشاهدة الأعمال التشكيلية التى تم تجميعها معروضة في المدرسة التقنية ب «سكين»، وبعد وفاة «كويا» في العام 1911 تبرعت الأسرة مالكة فندق «دغن» بحديقة الفندق القديمة ليشيَّد عليها المتحف الذي تم المباشرة في بنائه العام 1926، وقام بتصميمه المهندس المعماري «أولريخ بليسر: بعد توفر التمويل اللازم الذي أتى في جلّه من المؤسسات الخاصة. وقد افتُتح في العام 1928، وضم في جنباته حينئذ زهاء 325 عملاً فنياً تبرع بمعظمها الفنانون أنفسهم.خلال فترة الاحتلال النازي تم حفظ لوحات غرفة الطعام في فندق «غوندوم»، بعد أن استعملت القوات الألمانية تلك الغرفة كصالة للألعاب الرياضية. ثم نُقلت اللوحات إلى مبنى المتحف في العام 1946.وفي العام 1982 استُحدثت توسيعات في قاعات العرض وبعض المرافق الملحقة به، بتصاميم وضعها مهندس المساحة «جاكوب قيفا»، وهو المهندس نفسه الذي قام في العام 1998 بإنجاز الإضافات الأخرى بمساعدة من مؤسسة «آجي جنسن» للتمويل. وقد انتقلت الإدارة التي كانت في المدرسة التقنية إلى مبنى المتحف الذي أصبح يمتلك 1800 عملاً فنياً من اللوحات والمنحوتات من إبداعات أجيال مختلفة من التشكيليين.* شاعر وروائي من إرتريا* نشر في صحيفة الرأي الأردنية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى