مقالات

معنى وذكرى الاستقلال والمهام الآنية والمستقبلية ..محمد سعيد ناود ـ اسمرا

26-May-2007

المركز

يحق لنا هذا العام وكل عام أن نحتفل ونبتهج بذكرى الاستقلال, فعلى مدى مائة عام بالكمال والتمام, وتحديداً منذ عام 1890م وحتى عام 1991م تعرضت إرتريا للاستعمار الإيطالي والبريطاني وأخيراً للإثيوبي.

وقد عاش أجدادنا وهم يحلمون بالتخلص من عار الاستعمار وعبوديته, والفوز بحريتهم واستقلالهم. وقد تحقق هذا الحلم التاريخي على يد أحفادهم. عندما رفع جيل الآباء والأحفاد صوته مطالباً بالاستقلال, وأعلن تمرده على الاستعمار واجه مؤامرة دولية وقفت في طريقه ومنعته من هذا الحق المشروع. والمؤامرة الدولية تمثلت أولاً في: موقف الأمم المتحدة في ديسمبر 1950م, عندما فرضت قراراها المشؤوم الذي أطلقت عليه تسمية الفيدرالية, والذي كان في مضمونه السماح لإثيوبيا باستعمار إرتريا بدلاً من أن تأخذ طريقها نحو الاستقلال أسوة بباقي مستعمرات إيطاليا السابقة وهي ليبيا والصومال. وقد تأكد ذلك عندما قامت إثيوبيا في 14/11/1962م بإلغاء الفيدرالية من جانب واحد وضمت إرتريا قسراً, فإن الأمم المتحدة وهي صاحبة وضامنة القرار الفيدرالي التزمت الصمت وكأن الأمر لا يعنيها رغم استغاثات واحتجاجات الشعب الإرتري. وأعلن الشعب الإرتري ثورته المسلحة عندما لم يجد آذاناً صاغية لوسائله السلمية المطالبة بحقوقه المشروعة في تقرير المصير والاستقلال. وهنا برزت أيضاً المؤامرة الدولية بشكل أكثر سفوراً لقمع الثورة الإرترية وإسكات الشعب الإرتري للأبد, وكان ذلك في مرحلة الحرب الباردة. فقد قامت الولايات المتحدة الأمريكية بالوقوف إلى جانب الإمبراطورية الإثيوبية, حيث موّلتها بكل احتياجاتها من الأسلحة, ودعمتها مادياً وسياسياً لوضع نهاية لثورة إرتريا. كما قامت دولة إسرائيل بنفس الدور من الدعم, أبرزه التدريب العسكري لقوات الكوماندوز الإثيوبية وتسليحها, والتي نشرت الموت والدمار في الريف الإرتري. بل إن إسرائيل لعبت دوراً آخراً في عمليات التحقيق والتعذيب للمعتقلين السياسيين بواسطة خبرائها في ذلك المجال, بالإضافة لشبكات تجسسها التي كانت تقوم برصد وتعقب الأنشطة الثورية للإرتريين في الداخل والخارج لحساب الإمبراطورية الإثيوبية. وعندما تغيرت المعادلة بسقوط الإمبراطور هيلي سلاسي ونظامه بواسطة الدرق وعلى رأسه منقستو هيلي ماريام الذي لبس أقنعة تقدمية واشتراكية وماركسية, فإن الاتحاد السوفيتي السابق ومن كان يلف في فلكه من حكومات وأحزاب تولى دور الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل لضرب الثورة الإرترية ووضع نهاية لها. فقد تم دعم إثيوبيا بالسلاح والخبراء السوفيت، بالإضافة للدعم الاقتصادي والسياسي, بل وصل الأمر إلى حد دعمها بجيوش قدمت واشتركت بالسلاح الجوي والدبابات من دول تابعة للإستراتيجية السوفيتية آنذاك, حيث قاتلت إلى جانب الجيش الإثيوبي ضد الثورة الإرترية. وهناك منظمة الوحدة الإفريقية التي التزمت الصمت منذ ميلادها وحتى انتصار الثورة الإرترية, وكان ما كان يجري من أطول الحروب في إفريقيا المتمثلة في الحرب الإرترية الإثيوبية التي دامت ثلاثين عاماً لم يكن يهمها, رغم أن الثورة الإرترية منذ اندلاعها ظلت تقدم لها النداءات والاستغاثات والالتماسات والمذكرات. ورغم هذه المؤامرات الدولية المتمثلة في موقف الأمم المتحدة, والولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل والاتحاد السوفيتي وحلفائه, ثم منظمة الوحدة الإفريقية, فإن الشعب الإرتري تمكن من انتزاع استقلاله عبر أسلوب حضاري وقانوني, ولم يكتف بهزيمة جيش الاحتلال الإثيوبي هزيمة كاملة, وكان بمقدوره إعلان استقلاله في الحال, إلا أنه نال استقلاله عبر استفتاء شعبي داخل إرتريا ووسط كل الجاليات الإرترية من اللاجئين والمهاجرين في الخارج تحت إشراف دولي, شاركت فيه: الأمم المتحدة- منظمة الوحدة الإفريقية- جامعة الدول العربية وعدد من الدول والشخصيات العالمية كمراقبين, حيث كانت نتيجة الاستفتاء بنسبة غير مسبوقة في العالم وهي 99.8% إلى جانب الاستقلال. إن هذه النتيجة وهي انتزاع استقلال إرتريا التي حققها جيل الآباء والأحفاد لم تكن منحة من أحد, لكنها تحققت بعد أن دفع الشعب الإرتري الثمن الكامل للاستقلال من تشرد ولجوء وسجون وتعذيب ونضالات وتضحيات لا حصر لها, تمثلت في تقديم أكثر من 65 ألف شهيد من أبنائه وبناته ثمناً للحرية والاستقلال الذي ننعم به اليوم. من هنا فإنه يحق لنا اليوم أن نبتهج ونفرح, بل ونفتخر ونرفع رأسنا عالياً, حيث أن العالم الذي تجاهل حقوقنا المشروعة بل وتآمر علينا, فقد فرضنا عليه أخيراً أن يعترف بنا كدورة مستقلة كاملة السيادة وجزءاً من الأسرة الدولية, بل وإن ذكرى الاستقلال الذي نحتفل به اليوم له مذاقه الخاص بالنسبة لنا. فبالأمس القريب كنا نعيش حالة التشتت والضياع بالخارج, وحالة الإبادة الجماعية والمطاردات والاعتقالات في الداخل بواسطة الاحتلال الإثيوبي.. وكان الإرتري هائماً على وجهه حيث كان لاجئاً لا وطن له ولا هوية. أما اليوم فلكل إرتري وطن وهوية لا ينازعه فيها أحد, وهو يعيش في وطنه بعد أن تنسم نسيم الحرية والاستقلال. طموح بحجم عظمة شعبناإن الاستقلال بالنسبة لنا ليس شعارات فضفاضة خالية المضمون, بل له أجندة ثابتة يناضل شعبنا لتحقيقها الواحدة تلو الأخرى, وكما كانت مرحلة الثورة والتحرير تمثل تحدياً مصيرياً, فإن مرحلة الاستقلال تمثل بالنسبة لنا تحدياً أكبر. وفي هذا فنحن لا ننطلق من أوهام ورغبات ذاتية, ولكننا ننطلق من الحقائق الملموسة. فبلادنا مصنفة ضمن البلدان الفقيرة في العالم, ونحن لا ننكر هذه الحقيقة ولا نخجل منها لأن المنتسبين فيها هم الاستعماريون الذين مكثوا في بلادنا مائة عام دون أن يقوموا بالتنمية والبناء إلا ما يخدم مصالحهم. ولكننا واثقون بأننا بعد أن أزلنا عار الاستعمار عن كاهلنا فإننا قادرون أيضاً على إزالة عار الفقر والتخلف. وبحكم أن البدايات السليمة تؤدي في النهاية إلى النتائج السليمة والعكس بالعكس, فإننا وبحكم أننا لانزال في بداية الاستقلال حريصون كل الحرص على تبني سياسات صحيحة وثابتة تؤدي بنا في النهاية إلى إرتريا المزدهرة والمستقرة, وذلك عبر التخطيط الواعي والمدروس على المدى البعيد والقصير والآني, وليس باتباع السياسات العشوائية والتجريبية. مع الالتزام الصارم قولاً وعملاً وبالترجمة الدقيقة لكل الشعارات التي نرفعها للمحافظة على الثقة والمصداقية بين الجماهير وحكومتها. فنحن لا نكتفي بانتزاعنا لاستقلالنا أو بالمنجزات المتواضعة التي حققناها خلال الأعوام القصيرة من عمر الاستقلال, بل لدينا طموحاً كبيراً, ونحن واثقون من تحقيق هذا الطموح بالصبر والمثابرة والعمل الدؤوب الذي لا يعرف التوقف, وحسب مفهومنا للاستقلال فإن أجندته تتلخص في الخطوط العريضة التالية: 1- الاتعاظ والاستفادة من تجارب دول العالم الثالث وإفريقيا على وجه الخصوص مع الاستقلال. فتجاربهم بالنسبة لنا تعتبر ذخيرة حية وغنية, وذلك بتفادي المزالق التي وقعت فيها هذه الدول, لأننا مدركون بأنه لن يكون لنا عذر إذا كررنا أخطاء وإخفاقات من سبقونا في إفريقيا مع الاستقلال. وكأمثلة وليس للحصر فإننا نتطرق لنماذج من تلك الأخطاء التي حدثت في إفريقيا في النقاط التالية:- أ- في الحياة السياسية, تنفيذ النمط الغربي شكلاً وليس مضموناً, والتحدث بصوت عالي عن الديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان, وسن الدساتير الجميلة التي تحوي هذه الشعارات.. لكن كل ذلك لمجرد العرض والمباهاة وليس لها وجود على أرض الواقع ولا يحس بها المواطن في حياته, كما أن البعض يتفنن في تملق الجماهير ودغدغة مشاعرها أثناء الانتخابات الصورية للوصول إلى السلطة. وبعد وصوله للسلطة يتناسى كل وعوده ولا تكون له أي علاقة بهذه الجماهير إلا في الانتخابات القادمة ليعزف على نفس الأوتار. وهذه حالة انفصام بارزة في الحياة السياسية في بعض أجزاء القارة الإفريقية. ب- يرى المراقب بأن أجزاء من القارة تموج بالصراعات السلطوية من انقلابات عسكرية وانقلابات مضادة والحروب الأهلية التي تأخذ في ظاهرها الطابع العنصري والقبلي. وهذه الصورة القبيحة والمأساوية تعتبر إفرازاً طبيعياً لصراعات السلطة من أجل السلطة, بل والكثير منها حركته أصابع خفية من خارج القارة لتأمين مصالحها. والوسيلة كانت عبر حكام فاسدين أحاطوا أنفسهم ببطانة السوء من المستشارين والمتسلقين والمنافقين والنفعيين والطفيليين الذين يجيدون فن عزل الحاكم عن الشعب، وبالتالي يقومون باحتوائه ليصبح ألعوبة في أيديهم, وترتبط مصالحهم وبقائهم ببقاء الحاكم الفاسد وبقاء حكمه. وسلاحهم في مواجهة الشعب لإطالة عمرهم هو الأجهزة القمعية من أمن ومخابرات وسجون، والتي تغدق عليها الميزانيات الضخمة ليس لحماية المواطن والشعب بل لحماية أنفسهم ومصالحهم ونظام حكمهم, والنتيجة هي انتشار الفساد بأنواعه, والذي ينخر كالسوس في جسم الدولة وجسم المجتمع, ويعطل التطور الطبيعي والتنمية, مع انتشار الفقر لجميع الشعب ويحقق غنى فاحش لأقلية ضئيلة لم يكن لها دور أو مساهمة في تحقيق الاستقلال, وعندما تتحرك طلائع من الجماهير المقهورة رافعة راية التغيير والتصحيح, فإن هؤلاء الفاسدون من الحكام يلجأون أولاً للبطش بتلك الطلائع تحت تهم جاهزة من عملاء وجواسيس ومتآمرين وخونة, ثم يلجأون بعد ذلك لتحريك التناقضات الثانوية من قبلية وعنصرية وإقليمية وطائفية بين الجماهير وشغلها بمثل هذه الصراعات الانصرافية, بل ويلجأون أيضاً إلى شغلها وإيهامها بوجود تآمر وخطر خارجي يهدد الوطن. كل ذلك بهدف إطالة عمر أنظمتهم في السلطة. ومن هنا نرى التشرد واللجوء والمعتقلات والقتل وسط هذه الشعوب التي بليت بهذه النماذج من الحكام. ج- وكنماذج حية لهؤلاء الحكام الذين أشرنا إليهم في إفريقيا هناك: *مبوتو في زائير سابقاً الذي قتل الثائر باتريس لوممبا لحساب مصالح الشركات الأجنبية. وجلس على الحكم لأكثر من ثلاثين عاماً, حيث مارس مع بطانته الفاسدة النهب لموارد البلاد. وجعل من أغنى البلدان الإفريقية أفقرها, ودفع بشعبها إلى اللجوء, ثم إلى الثورة التي دامت طوال فترة حكمه حتى اقتلعته في النهاية.. *وهناك بوكاسا ا الذي وصل إلى الحكم بانقلاب عسكري, ثم تحول إلى رئيس الجمهورية, وأخيراً نصب نفسه إمبراطوراً على البلاد, وأصبح يعرف بالإمبراطور بوكاسا . 2- بعد أن استعرضنا بعض النماذج من الأخطاء التي حدثت في ظل الاستقلال ببعض البلدان الإفريقية بهدف تفاديها واستخلاص العبر والدروس منها, علينا بتقديس الاستقلال وتكريمه عبر السياسات الصائبة, بحيث تعود ثماره وخيراته على الأغلبية الساحقة من شعبنا التي ناضلت وضحت وأنجزت الاستقلال. 3- أن يكون في مقدمة همومنا نشر السلام والاستقرار والأمن والأمان في ربوع وطننا, لأن ذلك من الشروط الأساسية للسير بالاستقلال إلى الأمام, ويتم ذلك بالابتعاد عن الصراعات السلطوية والانقلابات العسكرية التي ابتليت بها القارة الإفريقية. 4- محاربة أعداء الإنسان الثلاثة وهي: الفقر- الجهل- المرض, ويتم ذلك بتطبيق الشعارات المرفوعة, وفي مقدمتها: *التنمية المتوازنة في شتى أنحاء القطر الإرتري, *التوسع المستمر في بناء المدارس والمستشفيات, *الاستمرار في حملات محو الأمية للكبار. *تسخير الموارد تسخيراً صحيحاً ولصالح الأغلبية الساحقة من السكان. *بناء الإنسان باعتباره العمود الفقري للتنمية والتطور, وذلك من خلال حملات التأهيل القائمة والتدريب المهني في شتى المجالات. 5- بلادنا ليست فقيرة, بل إن خيراتها المتنوعة كفيلة بالنهوض بشعبها, وتجربة الأعوام القليلة الماضية من الاستقلال تؤكد هذه الحقيقة. سارت بلادنا حيث خطت خطوات هامة للأمام معتمدة على إمكاناتها الذاتية, لذا علينا بالتركيز على الضروريات وفي مقدمتها: *تنمية الزراعة والثروة الحيوانية والثروة البحرية من أسماك وملح وخلافه. *تطوير الصناعات الخفيفة مثل المصنوعات الجلدية, ومستخرجات الألبان, وإيجاد أسواق لها. وهذا من شأنه استيعاب الأيدي العاملة والتخلص من البطالة بشكل تام. ونقول ذلك لأن إرتريا- وقبل أن يمارس المستعمرون الإثيوبيون تخريبهم الشامل- كانت في مقدمة دول القرن الإفريقي, حيث أن إرتريا كانت لها أسواقها التي كانت تشحن لها اللحوم المذبوحة والحية, وشتى أنواع الفواكه والخضراوات الطازجة بواسطة الطائرات والبواخر وذلك إلى أوروبا والشرق الأوسط. واليوم بمقدورها استعادة التعامل مع تلك الأسواق كما يمكنها التوسع في أسواق جديدة, الأمر الذي سينعكس بشكل إيجابي في اقتصادها. 6- الاندفاع دون توقف في مشاريع إعادة البناء والتعمير, واستكمال البنية التحتية وخاصة الطرق والمواصلات والاتصالات والكهرباء. وفي الوقت ذاته تشجيع الاستثمار الأجنبي وتهيئة المناخ له. 7- كما كان النضال من أجل الاستقلال مسؤولية جماعية اشترك فيها الشعب الإرتري بكامله, فإن المحافظة على هذا الاستقلال والسير به إلى الأمام لخلق إرتريا المتطورة والمزدهرة يعتبر بالدرجة الأولى مسؤولية الشعب الإرتري بكامله وليس مسؤولية الحكومة الإرترية لوحدها. 8- في علاقاتنا الخارجية تحكمنا مبادئ التعايش بسلام مع الجوار, وتبادل المصالح وعدم التدخل في الشؤون الداخلية, وخلق أحسن العلاقات مع دول العالم دون تمييز, وفتح الأسواق لمنتوجاتنا وجلب المساعدات والقروض الميسرة والمستثمرين. وفي الوقت ذاته تشجيع الديبلوماسية الجماهيرية بجانب الديبلوماسية الحكومية الرسمية. وكل عام وشعبنا بخير وبلادنا تنعم بالسلام والأمان والازدهار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى