مقالات

نصف قرن من الضياع ..الإرتريون .. الهروب إلى ملاجئ قصية( 2): عبد الجليل سليمان عبي

8-Oct-2010

المركز

جُل من تحدثت اليهم/ اليهن من الشباب الارتريين (تشمل الجنسين) الهاربين من عسف السلطة في بلدهم والتي ظلت تتبنى منذ وصولها دست الحكم عبر مشروعيتها الثوريه ( حررنا البلد، لذا لا يحكمها سوانا)، معظم هؤلاء لم يُدر في خلدهم لحظة هروبهم وعبورهم الحدود إلى السودان – خاصة- أو إلى أي دولة أخرى مجاورة سوى أمر واحد هو الوصول إلى أوروبا قدر الأمكان،

إلى أي دولة عربية نفطية للعمل والحصول على بعض المال ومن ثم تحقيق مشروع الهجرة (إلى الشمال)، وقال احد الشباب الهاربين حديثاً (أ ، عمر) انهم لا يلقون بالاً إلى المعارضة التي وصفها بأنها لن تفعل إزائهم شيئاً سوى تعقيد أمورهم أكثر، وأضاف، هم أيضاً يستغلوننا دون أن يقدموا لنا حتى النصح والارشاد اللازمين، و أبدى ( أ، عمر) امتعاضاً شديداً ممن وصفهم بـ( ديناصورات) المعارضة المتحكمين في كل شئ والذين لا يقبلون أي رأي آخر لا يتسق مع تصوراتهم للعمل المعارض التي وصفها بالبائسة والعقيمة، وأشار في سياق حديثة إلى أن معظم الشباب الهارب لا يرى في المعارضة ما هو أفضل من الحكومة، فهي أيضاً تعمد على استغلالهم أكثر مما تحل مشاكلهم حتى على المستوى الأدبي (النظري). كل الافادات التي تحصلت عليها خلال ثلاث جولات نهارية قمت بها ماسحاً مقاهي ومطاعم الارتريين في (الديم، العشرة، الجريف، الصحافة) وهي أحياء خرطومية يفضل الهاربين من ارتريا (جلهم من الشباب) السكن فيها، لم تقل أكثر مما قال (أ، عمر)، وهنا لا بُد من الأشارة إلى أنني وجدت صعوبة بالغة في الحصول على تلك الأفادات حيث أم هؤلاء الشباب لا يثقون في أحد، ويعتبرون مجرد الحديث عن أمورهم إلى شخص غريب (لا يعرفونه) هو حديث لرجل استخبارات تابع للنظام أو المعارضة، وتبدى هذا الخوف جلياً و واضحاً بين أؤلئك الهاربين حديثاً إلى السودان. ( 2 )تحصلت على سبعة عشر إفادة (17) بينهم ( 4 فتيات)، ترواحت مدة قدومهم إلى الخرطوم بين (تسع سنوات) في حالة (أ، عمر) إلى (32 يوما) في حالة ( فيوري)، وهنا لا بد من التنويه إلى أن (فيوري) هو ليس الاسم الحقيقي للفتاة البالغة من العمر سبعة عشر عاما والتي تعمل نادلة في مطعم شعبي في احد الأحياء الخرطومية، لكنها من طلبت الاشارة اليها بهذا الاسم، القاسم المشترك لكل هذه الافادات هو الرغبة في الهجرة بأية وسيلة، والعمل قدر الامكان على الابتعاد عن السياسة حتى مستوى الاحاديث العابرة، و محاولة تقليص فترة الاقامة في الخرطوم، و تجنب الجلوس إلى افراد ينتمون تنظيميا للمعارضة أو الحكومة في أماكن عامة. ( 3 )ثمة ملاحظة مهمة في هذا السياق لا بُد من الإشارة اليها، وهي ان هؤلاء الشباب/ الشابات لا يحلمون بالعودة (على الأقل لا يضعون خططا ذهنية مجردة) إلى وطنهم قريباً لأنهم لا يروون أن ثمة تغيير كبير ومهم يلوح في الأفق المنظور، بعضهم قال ان فكرة الوطن صارت مشوشة في ذهنه، وان مفردة مثل (الوطنية) أضحت عبئاً ثقيلا عليهم، لانها في احسن الأحوال تلقي بهم إلى حتفهم (حرباً أو هرباً منها)، واشار معظمهم إلى انهم يعانون حالة من انعدام الوزن و التمزق النفسي، حيث وجدوا انفسهم وحيدين دون أسرة في بلد (غريب) و وضع مزرٍ وأن لا احد يأخذ بيدهم إلا بمقابل، وانهم يضطرون للعمل بأجور تافهة تحت وطأة شروط و ظروف بالغة السوء والتعقيد، لكنهم اتفقوا على انهم هنا ما ان وصلوا إلى هنا حتى بدأوا يشعرون أن في الأفق ثمة مستقبل وأنهم من هنا يسمعون صرير انفتاح باب الهجرة بشكل اوضح. ( 4 ) ما لمسته من تلك الافادات – هو- ان جيل الشباب الارتري الباحث عن وطن بديل ( مابعد الاستقلال) لم تعد تجذبه وتبهره تلك الشعارات والعبارات التي ظلت الحكومة والمعارضة (الثوار السابقين) تستخدمانها – كل على طريقته ولصالح (ورقة) منذ بداية ستينيات القرن الماضي وإلى الآن بشكل ممض وبائس، فهؤلاء جيل مختلف، جيل عاش سنوات الحرية ( الست) من 1991م- 1998م، ليعود إلى القهر مجددا في وطن مستقل (تقرأ مُستغل عند الضرورة) أو لمن أراد، لكن كل هذا حدث في زمن لا يستطيع أحداً فيه أن (يأكل رأس أحد) بسهولة كما كان يحدث سابقاً فالمعلومات متوفرة وليس بمقدور احد حجبها، وليس من الحكمة أن يظن البعض (حاكمين أومعارضين) أن مجرد شعارات وهتافات ستغير من الواقع شيئاً، فحتى فكرة الوطن الحر المستقل الديمقراطي لم تعد بذات البريق والوهج القديم، ولم يعد الوطن محض صورة ذهنية و وجدانية فحسب، بل هو واقع مشهود ومعاش، خاصة في عصر العولمة هذا، حيث أن فرص الإطلاع على وجود أوطان أخرى فيها واقع افضل وحياة أجمل أضحى ممكناً، كما أن فرصة الوصول إلى تلك الأوطان البديلة أصبحت أكثر سهولة ويسر – كما قال لي ( أحدهم) أمس الأول في مقهي بحي الديم، و أضاف انه سيحزم حقائبه في غضون اثنى عشر يوماً إلى دولة أوروبية بعد أن تزوج بمواطنة من تلك الدولة كان قد تعرف عليها عبر الانترنت ولما اشتد ساعد الحب بينهما زارته في الخرطوم حيث تم تتويج العلاقة بزفاف (اطلعني على صور الحفل البهيج) وانها اكملت الآن اجراءات انضمام زوجها اليها، وقال بسخرية، انا الآن مواطن (……..). ( 5 )هذا هو الجيل الجديد!! جيل مل الشعارات، والهتاف، ولم تعد معانٍ كانت لها سطوتها وقوتها التأثيرية البالغة عند الثوار من (طبعة) منتصف القرن الماضي، مكانة تهز وجدان هؤلاء وتؤثر عليهم، هذا الجيل يحتاج إلى وقائع وأحداث جارية على الأرض يمكن لمسها لمس اليد، أكثر مما هو محتاج إلى كلمات معلقة في السماء، وكيما نقنعه بأن هنالك وطن جميل في الانتظار لا بُد أن نغير خطط التعامل معه، وأن نعمل أكثر مما نتحدث، وأن نفعل ما نقول، غير ذلك لا (حكومة ولا معارضة) بمقدورهما استقطاب طفل لم يبلغ الرشد بعد وهو يفكر في وطن بديل ويسعي للحصول عليه وانتزاعة من بين أنياب وبراثن رمال الصحراء وأمواج البحر، جيل يفضل الموت من أجل الحصول على وطن بديل، ويهرب من الموت من أجل (اللا حصول) على وطن أصلي، جيل يتساءل على الدوام، ويقلب المفاهيم ، يمحصها، ويدقق فيها، ولا يؤمن إلا بالواقع، ولأن خطاب الاستقطاب للثور والتحرير لم يعد صالحاً في هذه المرحلة، ولأن خطاب الوطن والوطنية قللت من قيمته الأوطان البديلة (أوطان الواجبات والحقوق) وليست أوطان الواجبات فقط والموت المجاني والأزهاق اليومي، ولأن الجيل الحالي هو جيل التواصل الواسع مع العالم والعالمين فهو جيل لا يمكن تأطيره بمحض مصطلحات وشعارات عفا عنها الزمن وغادر متردمها قطار العولمة السريع، لذا من يفكر في وضع خطط لايقاف تدفق الشباب الارتري المهارب (الاوطان البديلة) القصية، عليه أن يخاطبه في سياق عصره وزمنه، وأن يتخلي مرة وإلى الابد عن تلك اللغة الميتة المحنطة، وأن يفعل شيئاً أكثر نجاعة من التنظير، أو بتعرف بعجزة ويترك لهذا الجيل أن يقرر ماذا هو فاعل؟ وهذا ما سيحدث شاء البعض أم أبوا، ببساطة لأن الحياة تتخذ هذا السبيل مساراً وليس سواه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى