مقالات

وانجلى غبار المعركة الدبلوماسية. بقلم/ فتحي عثمان

5-Jul-2016

عدوليس ـ ملبورن

في نهاية مداولات الدورة الثانية والثلاثين لمجلس حقوق الانسان في الأول من يوليو الجاري، تبنى المجلس وبالتزكية مشروع القرار الجيبوتي- الصومالي المشترك بخصوص انتهاكات حقوق الانسان في ارتريا. القرار اشتمل على تسعة عشر توصية مبنية على التأييد المطلق لما خلصت إليه مفوضية التحقيقات حول انتهاكات حقوق في ارتريا، والتي توصلت بعد سنتين من التحقيقات بأن الحكومة الارترية ارتكبت انتهاكات ممنهجة لحقوق الانسان ترقى إلى حد كونها جرائم ضد الانسانية. ومن أهم التوصيات الواردة مطالبة الحكومة الارترية باحترام حق

الارتريين في إدارة شئونهم عبر إدارات منتخبة، ووضع حد للاعتقال التعسفي والخدمة الاجبارية مفتوحة الأجل وتوصيات أخرى. مايك سميث رئيس مفوضية التحقيقات رحب بالقرار الجديد ووصفه بأنه “خطوة أقرب نحو تحقيق الهدف”، والهدف الذي يقصده هو رغبة الارتريين في تقديم المتهمين والجناة بارتكاب جرائم إلى العدالة. فهل القرار خطوة في ذلك الاتجاه؟
الوصول إلى القرار مر بمنعرجين سياسيين حادين، الأول تبنته الحكومة الارترية وهو يحوي إقرار ضمني بوجود “قصور” في تطبيق العدالة؛ ولكن ذلك مرده حسب الموقف الدبلوماسي الارتري هو عدم تجاوب المجتمع الدولي مع متطلبات ارتريا في تطوير الأجهزة العدلية في البلاد. عليه سعت الدبلوماسية الارترية سعيا محموما لتقديم مشروع قرار ينبني على فكرة ” التعاون وبناء القدرات” ومؤداه أن يقوم المجتمع الدولي بتطوير قدرات ارتريا من اجل تحقيق العدالة. اعتمد هذا الموقف على إشاعة “الخوف” بأن أي تشديد دولي ضد ارتريا معناه حلول الفوضى في الاقليم: وهذا ما قصده البيان الرسمي الارتري عندما أدان قرار المجلس وقال بأنه سيكون ” له عواقب وخيمة” ليس على ارتريا بل على المنطقة بأسرها. الدول الاوروبية والتي بدت كأخوف من دجاجة، انطلى عليها التهديد الارتري، لذلك حاولت تمييع المسائل بحجة أن دفع ارتريا نحو “نقطة الانكسار” سوف يدفع إلى الفوضى ويزيد من مشاكل الهجرة المتزايدة. الولايات المتحدة والتي تعتقل الحكومة الارترية اثنين من موظفي سفارتها في اسمرا لما يزيد عن عشر سنوات، مالت هي الأخرى إلى هذا الموقف. وميوعة الموقف الامريكي تفهم ضمن ما يدور في واشنطن حاليا، إذ أن الإدارة الراحلة للرئيس الحالي لا تريد اتخاذ موقف ملزم للإدارة الجديدة القادمة، وإن كان الأمر يتعلق بحقوق الانسان، ذلك لأن الرئيس الحالي دخل في منطقة الظل التي لا يستطيع فيها اتخاذ قرارا حاسما، خاصة حول أفريقيا التي ينحدر منها. وكذلك لأن الصقور في واشنطن كانوا قد بدأوا في حزم امتعتهم للرحيل. ضمن هذا الفهم تقارب الموقف الامريكي مع الموقف الاوروبي، بل أن مندوب الولايات المتحدة في المجلس انتقد “صياغة” مشروع القرار الصومالي- الجيبوتي قائلا بأنها قوية وحادة؛ وإن المفوضية لم تثبت انتهاكات مماثلة لما تم إثباته في كوريا الشمالية. رغم ذلك لم تسلم أمريكا من أذى اسمرا التي وصفت القرار بأنها يخدم أجندة واشنطن وحلفائها الاوروبيين. أسمرا تعلم تماما بأن الإدارة الامريكية انتزعت اسنانها ولن تقوى على العض إلا بحلول يناير المقبل. في هذا الجو السياسي المتضارب المصالح والتوجهات جاء القرار الأخير للمجلس. وسمحت تلك الاجواء لبعض الموالين للحكومة بالتقليل من أهمية القرار؛ لكن هؤلاء جهلوا أن هذا القرار سوف يكون سما زعافا وموتا بطيئا للحكومة في اسمرا وذلك للأسباب التالية:
أولا: لا زالت مهام المفوضية تسري عبر التمديد لمقررة حقوق الانسان في ارتريا لمدة عام آخر، أي أن أوضاع حقوق الانسان في ارتريا سوف تظل تحت عين المجلس لمدة عام آخر.
ثانيا: مطالبة الحكومة الارترية بالتجاوب مع التوصيات ومن ضمنها فتح مكتب متابعة في اسمرا لمكتب المفوض السامي لحقوق الانسان، وهي توصية لن تتجاوب الحكومة معها بكل تأكيد؛ لكنها سوف تدفع ثمن تعنتها حولها.
ثالثا: هناك بند، جعل الحكومة الارترية، تبدو كالثور في مستودع الخزف، وهو البند الذي يطلب من الاتحاد الافريقي التحقيق في انتهاكات حقوق الانسان في ارتريا. المعلوم أن الاتحاد الافريقي ليس لديه محكمة عدل افريقية قوية، وليس لديه كذلك أجهزة تنفيذية، لكن نفس هذا المجلس هو الذي قدم مشروع قانون العقوبات ضد ارتريا في سنة 2009 وتبناه مجلس الأمن لاحقا وأصبح هو دهليز عزلة الحكومة الحالية. واسمرا تعلم تمام العلم أن بقاء ملفها في جنيف أو نيويورك خيرا لها الف مرة من أن يكون موزعا بين مقديشو، وجيبوتي وكمبالا ونيروبي، لأنها ذاقت وبال ذلك الأمر من قبل. وتزامن الطلب من الاتحاد الافريقي بالتحقيق في انتهاكات حقوق الانسان، والتمديد للمقررة الخاصة لمدة عام آخر، يعني أن الحكومة في اسمرا أصبحت في وضع “كش ملك” وهذا الذي يغفله من يظنون أن القرار جاء ضعيفا أو هزيلا.
رابعا: أتسع نطاق الاجهزة “ذات الاختصاص” والتي سوف يصلها تقرير مفوضية التحقيقات، فهناك أولا الجمعية العامة التي سيعرض عليها التقرير في سبتمبر المقبل، ثم مجلس الأمن الدولي ومحكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، هذه كلها أجهزة لها علاقة بحقوق الانسان وانتهاكاتها بشكل مباشر؛ أما مجلس الأمن فالتقرير يدخل تحت اختصاصه تحت بند السلم والأمن الدوليين.
المعركة الدبلوماسية انجلى غبارها بخسارة تامة للحكومة الارترية؛ وذلك بفشل تبني مشروع قرارها والأيام المقبلة ستكون أكثر صعوبة إذ أن مرور ملف حقوق الانسان في ارتريا بأروقة الاتحاد الافريقي سيعقد الأمور لأسمرا بشكل لا تستطيع التعاطي معه؛ خاصة وإنها شبه غائبة عن هذه المؤسسة وتعاني من عزلة دولية خانقة. حتى الجمعية العامة للأمم المتحدة والتي في العادة ما تكون “صديقة” للدول المغلوبة على أمرها، والتي تعتبر برلمانا عالميا يضم 193 عضوا؛ حتى هذا المحفل العالمي لن تجد اسمرا فيه أحضانا دافئة تقيها زمهرير رياح نيويورك في الشتاءات الباردة. أخيرا: المعركة أظهرت في احد معتراكتها أن الجماهير في تظاهرها الجماعي تقدمت بخطوات كبيرة على القيادات السياسية نحو لف الأنشوطة حول رقاب الجناة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى