مقالات

وداعًا طه !! خليفة عثمان حامد

12-Mar-2008

المركز

مناضل آخر يسقط ضحية لبطش نظام من أبشع وأقسى الأنظمة الديكتاتورية التي عرفتها قارتنا المنكوبة.
لم يشفع له كونه واحدًا من أولئك الذين قاموا بتأسيس جبهة التحرير الإرترية معلنين بألاّ طريق لطرد المستعمر وتحرير الوطن سوى طريق الكفاح المسلح، وهو الذي ترجمه على أرض الواقع القائد الشهيد حامد إدريس عواتي ورفاقه حينما دوّت طلقات رصاصاتهم في جبال آدال إيذانًا ببداية الكفاح المسلح.

لم يشفع له بأن نداء الثورة الذي أطلقه مع رفاقه في يوليو عام 1960، قد تردد صداه في أرجاء الوطن، فاستجاب له الشعب بأسره وسار أبناؤه على الطريق الذي اختطه لهم عواتي فأنهكوا العدو ثم أنزلوا به الهزيمة.ترى ماذا اقترف المناضل الشهيد طه محمد نور من جرم، حتى يُلقى به في سجن الدولة التي حلم بها وناضل معظم سنوات عمره حتى تظهر للوجود !قطعًا لم يفعل شيئًا يلحق الضرر بشعبه أو وطنه الذين وهبهما حياته، ولكنه ومثل كل الغيورين على وطنهم لا بد وأن يكون قد صعب عليه أن يظل صامتًا طالبًا الأمان والسلامة لنفسه، ومبادئ الثورة تداس بنعال الدكتاتورية والوطن الذي حلم به ملاذًا آمنًا لشعبه يتحول إلى سجن كبير، ولاسيما هو المعروف عنه عدم التردد في الإفصاح عن رأيه، أيًّا كانت الظروف. والإفصاح عن الرأي الذي لا يروق للسلطة كافٍ في نظام الـ “هقدف” لأن يزج المرء في السجن ويقضي بقية حياته فيه، إن لم يصفَّ جسديًّا أو يعاجله القدر.لقد كان طه، بالنسبة لي، أخًا وصديقًا. فمنذ الدراسة الابتدائية في مدرسة أسمرا الإسلامية (Benubelent School) لاحقًا، اقترنت مسيرتنا الدراسية حتى الجامعة في إيطاليا مرورًا بالدراسة الإعدادية والقانونية في مصر.يعود اهتمامه بالقضية الوطنية إلى أيام الدراسة الإعدادية وربما قبلها، فقد كان الأكثر ميلاً للانخراط في العمل الوطني والأكثر إقدامًا لأخذ المبادرات واتخاذ المواقف، وقد قاده ذلك، لأن يكون واحدًا من الذين بادروا بتأسيس جبهة التحرير الإرترية. ومما يجدر ذكره أن أخاه موسى محمد نور من الوطنيين المعروفين. وكانت قد ألقى عليه من السلطات الإثيوبية في العام 1963م بسبب استقباله للمناضل الشهيد سعيد حسين وسيد أحمد هاشم (أحد مؤسسي جبهة التحرير الإرترية) حينما دخلا إلى أسمرا للقيام بعملية فدائية في مطار أسمرا، وقضى في السجن سنة ونصف السنة. وفي إيطاليا- التي كان قد سبقنا إليها- كان كدأبه مفعمًا بالنشاط لا يتوقف ولا يمل عن التردد على الأحزاب والمنظمات السياسية الإيطالية لشرح الأوضاع في إرتريا وأهداف الجبهة “الوليدة” التي تسعى لتحرير شعبها من المستعمر الإثيوبي. وقد وجدناه – حينما حللنا بها مع الصديق المناضل الشهيد يحيى جابر الذي كان استشهاده المبكر كأول طبيب يلحق بالميدان، إضافة إلى وعيه السياسي العميق والمتقدم، خسارة كبرى للثورة – وجدناه وقد أقام علاقات مع العديد منها وكسب تعاطف بعضها مع نضال شعبنا العادل. وكان بصفته عضوًا في القيادة العليا لجبهة التحرير الإرترية مصدر معلوماتنا عن النضال داخل إرتريا وإنجازات جيش التحرير والتي كانت تفيدنا كثيرًا في نشاطاتنا سواءً في إيطاليا أو خلال اجتماعات الطلبة الإرتريين في أوروبا. ولكن وحينما احتدمت الخلافات داخل قيادة جبهة التحرير ووسط القيادات العسكرية، حتى تأزم الموقف داخل التنظيم ثم وقعت الانشقاقات، وقف طه، حيث كان بصفته عضواً في المجلس الأعلى جزء من تلك الخلافات، مع الرأي الذي كان يقول بأن الخلافات قد تعمقت ووصلت مداها وأفرزت نتائج خطيرة صار معها مستحيلاً أن يعمل المختلفون في إطار تنظيم واحد. بينما كان موقفي مع موقف فرع إيطاليا الذي كان مع الرأي الذي ينادي بضرورة انعقاد مؤتمر وطني تطرح وتناقش فيه كل القضايا الخلافية، ذلك لأن الانشقاق لا يمكن أن يكون حلاًّ! ومنذ ذلك الحين تفرقت سبلنا. ولكن وبعد سنوات طويلة – جرت فيها مياه كثيرة تحت الجسر – وجدنا أنفسنا في خندق واحد نناضل فيه ضد الهيمنة التي فرضتها الجبهة الشعبية على ساحة النضال والتي صارت تطارد التنظيمات الأخرى، حتى لا يكون لها موقع قدم في ساحة المواجهة مع العدو. التقينا في تلك الفترة عددًا من المرات اجتررنا فيها ذكريات الماضي البعيد ونحن نتناول هموم الحاضر وآفاق المستقبل. بعد الاستقلال اتخذ تنظيمانا موقفين مختلفين من مطالبة الجبهة الشعبية للتنظيمات الأخرى بحل تنظيماتها والالتحاق بركبها. فبينما وافق التنظيم الموحد الذي كان ينتمي إليه طه، بحل تنظيمه والدخول إلى إرتريا، رفض تنظيمنا ذلك الطلب وبقي معارضًا في الخارج يناضل في سبيل إقامة نظام ديمقراطي تعددي يتم التداول السلمي للسلطة فيه عبر صناديق الاقتراع. وفي إرتريا وحينما تكونت لجنة الدستور، عُيِّن طه عضوًا فيها. وقد شهد له الدكتور برخت قبري سلاسي بدفاعه المستميت عن ضرورة اعتماد اللغتين العربية والتقرينية لغتين رسميتين، وذلك في المقابلة التي أجريت معه – والتي كنت طرفًا فيها أيضًا – من قبل صوت أمريكا – قسم اللغة التقرينية، بمناسبة استشهاد المناضل طه محمد نور. وقد علق الدكتور برخت على ذلك قائلاً: حينما ننظر للأمر اليوم، فإن موقف طه كان هو الموقف الصائب.كم هو مؤلم أن يفارق الأخ والصديق طه الحياة في سجن من سجون إرتريا المستقلة، التي أحبها ونذر حياته في سبيل أن تنال استقلالها وأن يحرمه النظام من الدفن في مقابر الشهداء. ولكن عزاؤنا هو أن الشعب الذي عرف قدره، قد وضع وسام المحبة شاهدًا على قبره، بذلك التشييع المهيب لجثمانه الطاهر والذي بشهادة الشهود قلَّ أن عرفت له أسمرا مثيلاً. ألا رحم الله طه بقدر ما قدم لشعبه ووطنهوألهمنا وذويه ورفاق نضاله الصبر والسلوان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى