دراسات وبحوث

مناقشة لمفهوم الهوية الوطنية في سياقه التاريخي. رؤية/ زين العابدين شوكاي

12-Aug-2017

عدوليس ـ ملبورن

شهدت الساحة السياسية الإرترية مؤخرًا نقاشًا محمومًا في وسائط التواصل الاجتماعي حول الهوية، وهناك ظواهر متطرفة وصل الأمر بالبعض منها إلى تقديم وجهة نظره بشكل متعصب وعنصري يخرج المناقشة عن سياقها الموضوعي، بحيث يصبح الهدف من النقاش تحويله إلى أداة لتعبئة مقيتة ومدمرة للجميع والتي يمكن أن تؤدي إلى حروب وصراعات لا أحد يمكنه أن يتكهن بمآلاتها ونهاياتها. والحرب كما يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش “أولها سراب، وآخرها خراب”. ورغم الادعاء بأن في الحروب خاسر ورابح، إلا أنها وبالنتيجة النهائية تخلف وراءها الندم والدمار، وتتمنى الأطراف المشاركة فيها أنها لم تحدث.

دعونا في هذه المقدمة نرسي بعض المفاهيم الأساسية للتاريخ بهدف تهيئة الأرضية وتمهيدها لتقديم فهم وقراءة موضوعية لمفهوم الهوية الوطنية الإرترية في سياقه التاريخي، على أمل أن يزيل هذا الفهم وهذه القراءة بعض التصورات التي يمكن أن تكون خاطئة حول الهوية الوطنية، والناتجة عن فهمنا وقراءتنا لها أحيانًا خارج السياق التاريخي والموضوعي، وبالتالي يخلق هذا الوضع نوعًا من الارتباك والتشوش في الوعي والإدراك، وهذا من شأنه أن يقود إلى التعصب والتشدد غير الحميد، وبالتالي يهدر طاقات وزمن القوى الوطنية الخيرة، التي تسعى إلى إرساء قيم ومبادئ العدل، والمساواة، والديمقراطية، والحرية.
لو تساءلنا جدلًا، ماذا يعني التاريخ لأي شعب من الشعوب، يمكن القول إن التاريخ يعتبر ركيزة أساسية لوجود أي كيان سياسي مهما صغر هذا الكيان أو كبر. وبالتالي يتمتع التاريخ بمكانة خاصة في الذاكرة الجماعية لأي شعب من شعوب الأرض. يقول الكاتب السوفييتي السابق رسول حمزاتوف في كتابه “داغستان – بلدي” للتأكيد على أهمية الماضي وأهمية التاريخ بالنسبة للأفراد والجماعات، وعلى لسان “أبو طالب”، الشخصية التي تعتبر الضمير الحي في ذلك العمل الأدبي القيم: “إذا أطلقت نار مسدسك على الماضي، فسيطلق عليك المستقبل نيران مدافعه”. بمعنى لو أنكر الإنسان ماضيه أو تنكر له، وحاول التخلص منه، فسيكون المستقبل ضده. عليه يعتبر التاريخ ذاكرة جماعية للشعوب، حتى لو اختلطت فيه مرات كثيرة الوقائع بالأساطير، بل حتى بالأكاذيب في بعض الحالات.
إذًا، هل التاريخ مادة للصراع والاختلاف أم أنه مادة للاتفاق والوحدة؟ وكيف يساهم التاريخ في بلورة الوعي بالهوية الوطنية المشتركة؟ تؤكد الوقائع على أنه وفي الواقع الإرتري تم توظيف التاريخ حتى هذه اللحظة ليكون مادة للصراع والاختلاف، وأن قدرة التاريخ على بلورة هوية وطنية إرترية جامعة يعتمد دومًا على رغبة المكونات والجهود التي تبذلها هذه المكونات في هذا الاتجاه. أمثلة كثيرة يمكن سوقها من الواقع الإرتري في هذا المضمار، إلا أن ضيق الحيز المتاح لهذه الورقة لا يسمح بالإسهاب في الأمثلة. تاريخ الحركة الوطنية الإرترية يمكن اعتباره نموذجًا لقياس نجاحاتنا في جعل التاريخ مادة للاتفاق والوحدة، وكيفية مساهمة التاريخ في بلورة الوعي بالهوية الوطنية المشتركة، بما له وما عليه من مآخذ. وأنا شخصيًّا أعتز وأدافع عن الجانب المشرق فيه، دون إنكار أن فيه أيضًا إخفاقات ومشاكل يجب أن نتعلم منها، ونتعظ بها، ونعمل على عدم تكرارها.
وبالنسبة للسؤال المتعلق بماهية الإشكاليات التي تواجه الشعوب التي تعتمد على الثقافة الشفاهية، وتفتقر إلى التاريخ المكتوب، من بينها الشعب الإرتري، يمكن القول إن شعوبنا تعاني من النظرة الحزئية والقاصرة إلى التاريخ. وتسيطر المغالطات الناجمة عن هذه النظرة القاصرة والجزئية على النقاش العام، وهذا يؤدي إلى ضياع الكثير من الحقائق الموضوعية في خضم تلك المغالطات، وهذا بدوره يقود إلى غياب المعيارية والموضوعية في تناول المادة التاريخية، وحينها يسهل إخضاعها للتزييف والفبركة والمزاجية. وهذه تعتبر إحدى أكبر الإشكاليات التي تواجهها المجتمعات المتعددة الأعراق والثقافات في تقييم تاريخها. فالتعدد العرقي والثقافي يمكن أن يتحول إلى لعنة، ويمكن أن يتحول إلى مصدر ثراء، إذا تمت إدارة الصراعات والخلافات بحكمة، واعتبرنا أن تاريخنا الجمعي والكلي يتكون من الجزئيات التي ساهم فيها الإرتريون جميعًا، وأنه لا يحق لأي جزئية من هذا التاريخ، تخص أي مجموعة مهما كان حجمها ومسماها، أن تحاول ممارسة الطغيان والاستعلاء على التاريخ الجمعي للشعب الإرتري.
أما بالنسبة للسؤال المتعلق بوجود تاريخ متوهم وآخر حقيقي، وكيفية التمييز بينهما، نرى أن هناك صعوبة في الحكم على ماهو حقيقي وما هو متوهم، والتمييز بينهما. وهنا لا بديل لإيجاد المؤسسات الأكاديمية والعلمية المحايدة وليس جهود الأفراد التي يفترض أن تناط بها مهمة التدقيق والتمحيص فيما هو حقيقي وما هو متوهم في تاريخنا، والتمييز بينهما، لأن مثل هذه المؤسسات هي وحدها القادرة والمؤهلة للعب هذا الدور. ويجب على المؤسسات الأكاديمية والبحثية المسؤولة عن البحث التاريخي أن تقوم بمهمة البحث العلمي بحيادية، وتتيح المجال لكل الرؤى المتباينة أن تنمو وتزدهر تحت رعايتها بعيدًا عن القمع والهيمنة.
في واقعنا الإرتري، هناك حديث يدور دائمًا عن الهويات المتعددة، والعمل على دمج هذا التنوع أو التعدد في هوية أو كيان توافقي ضمن وطن واحد. هذا الطرح ترافقه باستمرار التهمة التي تتردد بأن هذا النوع من التوفيق أو التركيب يتم على حساب التنوع والحقوق الناجمة بالضرورة عن مثل هذا التنوع والتعدد المتمايز عن بعضه البعض، في سبيل إيجاد الهوية أو الكيان التوفيقي/التركيبي. وهذا تتولد عنه مشكلة في ولاءات الأفراد، حيث نجد الولاء للكيانات أو الهويات التوفيقية أو الهجينة أقل بكثير من الولاء للهويات التي تعتمد على الأصل المشترك “البيولوجي”، أو الخصوصيات الثقافية أو السلوكية. وهناك ادعاء يقول إن الهويات التوفيقية أو التوافقية تحمل في داخلها مشكلة ظهور ولاءات متعددة يعاني أصحابها من الانفصام/ الشيزوفرينيا، وأن هذا الأمر يعرض الهويات التوفيقية/التركيبية إلى الانهيار في الأوقات العصيبة، وتكون مستمرة ومتماسكة طالما كانت الظروف السياسية والاقتصادية مواتية.
من المعروف أن الولاءات التوفيقية/التوافقية ليس بمقدورها أن تزيل ما ترسبت من ولاءات أخرى، حتى لو أرادت ذلك، لأن مثل هذا الطموح يعبر عن توجه أو تفكير رغبي لا تسنده حقائق الواقع المعيش. والكيانات التوفيقية بحاجة إلى نقلة معرفية للجماعة المشاركة في هذا المشروع لتكون سندًا لمشروع الهوية الجامعة، وللتغلب على محاولات تأكيد الذات التي تأتي من أي مكون من المكونات على حساب المكونات الأخرى، وبطرق غير شرعية، وبصورة تهدد المشروع المشترك، وتؤدي إلى تفرعات وتشعبات غير حميدة في الكيان المشترك، وبالتالي نرى انعدام الاستقرار، بحيث يصبح الخيار الأمثل للجماعات المكونة لذلك الكيان التمسك بالخصوصيات بصورة تهدد الكيان المشترك / أي الخيار التوافقي.
في المرحلة التي أعقبت خروج المستعمرين من عدد كبير من الدول الأفريقية في ستينيات القرن الماضي، أغلب قادة مشروع الاستقلال الوطني، والذين أصبحوا قادة لبلدانهم بعد خروج المستعمر منها، كانوا يسعون للحفاظ على الكيانات التي كونها المستعمرون من عناصر غير منسجمة، إن لم نقل متنافرة، وكانت علاقات مكونات تلك الكيانات أما يحكمها الجهل ببعضها البعض في أحسن الأحوال، والشك والريبة، بل حتى المواجهات الدامية بين تلك المكونات قبل مجيء المستعمرين إلى تلك البلدان في أسوإ الحالات. والكيان الإرتري ليس استثناءً في هذا الخصوص، رغم تأكيدنا على أن المواجهات التي تمت على الأرض الإرترية حينها كان الغالب فيها الغزو الخارجي الذي كان يأتي من كافة الاتجاهات.
قيادات حقبة الاستقلال في أفريقيا تجاهلوا إشكاليات التنوع والتعدد التي كانت تميز بلدانهم، وحاولوا الاحتفاظ بتلك الكيانات كما تركها لهم المستعمر، بل وبالتعاون معه في أوقات الشدة وانفجار الأزمات التي كانت تسببها التنافرات التي تميز هذه الكيانات. وبالتالي عجزت دولة ما بعد الاستعمار في أن تكون مقنعة وحاضنة لمكوناتها، كما أنها انتقصت من استقلاليتها وحريتها بالارتباط بمستعمريها السابقين، كما عجزت تلك البلدان عن إيجاد دولة المؤسسات التي تخضع فيها المؤسسات ومسؤوليها للمساءلة والمحاسبة من قبل شعوبها، وفشلت الدولة بالتالي في خلق شعور حقيقي بالمواطنة لدى مكوناتها المختلفة.
تجدر الإشارة أيضًا إلى أن منظمة الوحدة الأفريقية ظهرت في الستينيات، وتحديدًا عام 1963، لتوحيد جهود الدول الأفريقية التي استقلت غالبيتها في تلك الحقبة، وكانت المنظمة تهدف إلى جمع الدول وليس الشعوب، وساهمت في تأزيم مشكلة التعدد التي تتميز بها دول القارة، لأن المنظمة لم يكن من بين أهدافها ولا على رأس قائمة همومها وضع معالجات للتعقيدات التي تميز تلك الكيانات، بل يمكن القول إنها ساهمت في قمعها. وظلت المشكلات الناجمة عن التعدد عالقة، لأنها كانت تسعى إلى قهر المكونات التي ليس لديها مشتركات كثيرة، وإجبارها بقوة القمع للقبول بالكيانات القائمة التي لا تقدم حلولًا لمشكلات شعوبها. توزع أعداد كبيرة من المكونات التي يوجد بينها مشتركات في دول عديدة متجاورة أدى أيضًا إلى تأزيم المشكلات وتفاقمها وإلى نشوء حركات قومية أو إثنية تحمل السلاح ضد الدولة المركزية لحسم صراعها معها في مسألة اقتسام السلطة والموارد.
لدى الحديث عن الهوية، فالهوية لا تحمل في ذاتها قيمة سلبية أو إيجابية أو قيمة الخير أو الشر. والهوية تحمل وجهان الوجه الأول هي “الأنا” أو “الذات”، سواء كانت هذه الأنا/الذات فردية أم جماعية، والوجه الآخر لهذه الأنا/الذات هو في علاقاتها بالأفراد الآخرين أو بالمجموعات الأخرى خارج المجموعة التي ينتمي إليها الفرد. في هذا الإطار، يعتبر الانتماء العرقي أو الإثني أحد أقوى أشكال التعبير عن الذات أو الانتماء، وهذه الهوية يتم التعبير عنها بأشكال شتى من بينها الشكل الخارجي، أو السلوكي، أو الشخصية الاجتماعية وما ينسج حولها من أساطير حول الأصل المشترك. عادة ما يستخدم الانتماء الإثني/العرقي لرسم الحدود بين الذات والآخر، بين من هم داخل الدائرة ومن هم خارجها. وعملية انتقاء الأفراد بأن يكونوا داخل دائرة الانتماء أو خارجها مبنى على عدد من الخصائص، من بينها: أ) المظهر الخارجي مثل لون الجلد أو نوعية الشعر، ب) الخصائص الاجتماعية كاللغة والدين أو المعتقد، ج) خصائص سلوكية مثل الشعائر والطقوس والتقاليد الاجتماعية وغيرها، د) الأساطير والحكايات المبنية على الأصل المشترك سواء كانت متوهمة أم حقيقية، ه) التاريخ المشترك، والتجارب السياسية والاجتماعية المشتركة.
يرى البعض في الهوية وكأنها معطى ثابت وساكن بصورة طبيعية (المدرسة الطبيعية)، أو أنها مفهوم تحيط به الثنائيات بصورة صارمة كالضم والإقصاء، والخاص والعام، والداخل والخارج وغيرها من الثنائيات التي تساعد على التمايز. مؤيدو المدرسة الطبيعية يستخدمون التاريخ للتأكيد على تمايز الهويات، فعلى الرغم من الإقرار الجزئي بأن التفاعل مع الآخرين يخفف من حدة التركيز على التمايز باستمرار، لكنه لا يتغلب عليها، وفي المحصلة النهائية فإن أتباع المدرسة الطبيعية الذين يؤمنون بالهوية الثابتة والجوهرية يركزون في خطابهم على الخصائص الثقافية والنفسية غير المتغيرة لأهميتها الوجودية بالنسبة لأتباع هذه المدرسة، ويؤدي ذلك إلى الانغلاق داخل الهوية، المبنية على أواصر الدم والخصائص الوراثية المزعومة. وهذا بدوره يؤدي إلى نوع من أنواع العنصرية لتحديد من يحق له أن يقود أو يحكم ومن لا يحق له.
أين تكمن إشكاليتنا كإرتريين على ضوء كل ما تقدم؟ إذا نظرنا إلى التعقيدات التي صاحبت تكوين إرتريا كوطن، نجد أن التعدد العرقي والثقافي والديني في كيان صغير كالكيان الإرتري كان وسيظل إشكالية تحتاج إلى بذل جهود حقيقية فردية ومؤسسية للحفاظ على تعايش هذه المكونات. لم يتم تكوين إرتريا كبلد بشكلها الحالي نتيجة تطور طبيعي ساهمت فيه هذه المكونات وواكبت عملية تشكله. إرتريا ليست استثناءً في هذا السياق عن مثيلاتها من الدول في القريب والبعيد. وأثر اختلاف تجاربنا وانتماءاتنا على أفهامنا المتباينة لإرتريا واضح للعيان، وهذه القضية تطرح نفسها بحدة، عندما نلاحظ صعوبة تحرر الإنسان من خلفيته العرقية والثقافية والدينية أثناء محاكمته للواقع.
وإذا تساءلنا عن تأثير تعاقب المستعمرين على البلاد على فهم الإرتريين لأنفسهم، خاصة حقبة الاستعمار الإيطالي، هناك مقولة تتردد أن إرتريا الحالية هي صنيعة الاستعمار الإيطالي، وكأن الإيطاليين هم من أوجدوا الشعب الإرتري بمكوناته الراهنة، رغم أن وجوده سابق لمجيئهم. فوجود إرتريا بمعناه السياسي المعاصر ساهم فيه الإيطاليون دون شك بصورة كبيرة، لكن الإيطاليين لم يوجدوا الشعب الإرتري من العدم. والشعب الإرتري بكافة مكوناته يعتبر من الشعوب العريقة التي لم يتم دراسة تاريخها القديم، والوسيط، والحديث بصورة لائقة، لذا نرى أن هناك من يتلاعب في هذه المساحة ليوظف جزءًا من الحقيقة وتقديمها على أنها كل الحقيقة، أو الحقيقة الوحيدة، وهذا ما نراه على وجه الخصوص في الطرح المتطرف أيًّا كانت الجهة التي تتبناه وتقدمه.
نفهم من ذلك أن المكونات الإرترية المختلفة لديها أفهام مختلفة لهويتها بعلاقتها بالآخرين ، وباتالي فالسؤال المنطقي في هذه الحالة هو: هل تتكامل الأفهام المتباينة أم أنها متعارضة ولا يمكن التوفيق بينها؟ لا شك أن هناك أفهامًا متباينة تمخضت عنها اختلافات واضحة بين الإرترييين في كل الحقب التاريخية الماضية. والفرص المتاحة أمام الإرتريين للتوفيق بين هذه الأفهام في ظل كيان وطني جامع كبيرة، إذا توفرت النوايا الطيبة، وعمل الإرتريون كل من جانبه للحفاظ على التوازنات التي تمنح إرتريا وجهها الحقيقي الذي يعترف بالتنوع والتعدد ويحترمه، ويبني عليه الأسس التي يتعامل بها، وسياسات واستراتيجيات الدولة الإرترية الديمقراطية التعددية يجب بناؤها على الإقرار بهذا التعدد وهذا التنوع كحقيقة موضوعية، ومن ثم ترجمة هذا الإقرار في خطوات عملية تساهم في تقدم واستقرار كافة مكونات الوطن، وليس بناء رفاهية واستقرار قسم معين من المجتمع على حساب المكونات الأخرى.
وبالنسبة للسؤال المتعلق بما وصلت إليه العلاقات البينية لمكونات الوطن الإرتري، نرى أن العلاقات بين مكونات الوطن الإرتري العرقية والدينية تمر بأسوإ مراحلها، ومسببات ذلك عديدة، لكن أسوأها على الإطلاق هو انعدام الثقة بين تلك المكونات. إذًا، ما هو أثر الخلافات التاريخية التي شهدتها الحركة الوطنية الإرترية على الخلافات الحالية؟ إن أهم التباينات الفكرية والمطلبية ظهرت في فترة تقرير المصير، وفترة الكفاح المسلح كدفاع عن الخصوصية، وهذه التوجهات استلزمت أحيانًا إقصاء الآخر، المخالف في الرأي والانتماء. هاتان التجربتان اللتان تسميان في الأدب السياسي الإرتري بفترة تقرير المصير وفترة الكفاح المسلح لازمتهما صراعات، وكانت الصراعات في فترة تقرير المصير في الغالب الأعم ذات طابع ديني/سياسي، أدت في بعض المواقف إلى الترهيب والاغتيال، ثم تلتها فترة الكفاح المسلح وما رافقتها من حرب أهلية، والتي كانت في الغالب الأعم قبلية/مناطقية/سياسية، تركت برمتها جراحات لم تندمل بعد لأنها لم تعالج، وزادتها سنين الديكتاتورية العجاف تأزمًا لتعمق الشرخ بين المكونات، وتسمح للتيارات الانعزالية المتطرفة بتصدر المشهد، وتشكك الإرتريين في تاريخهم وتضحياتهم، وبالتالي انهيار أهم الأسس التي تقوم عليها الهوية الوطنية الإرترية الموحدة، وهو التاريخ النضالي المشترك الذي عمد بالدم والعرق.
توجهات التطرف الواضحة التي شهدتها الساحة السياسية الإرترية مؤخرًا تؤكد على نشوء تيارات انعزالية لها علاقة بما وصلت العلاقات البينية لمكونات الوطن الإرتري من سوء وانعدام الثقة بين تلك المكونات. وتستغل هذه التيارات أزمة الثقة القائمة بين الإرتريين استغلالًا بشعًا وبصورة ممنهجة، لتحاكي تجارب أخرى أقرب للمشروعات الفاشية، أكثر من أنها مشروعات لها سمات إنسانية. هذه التيارات الانعزالية تبني حججها ومنطقها على دعوات استعلائية إثنية مسيئة للآخر المختلف بهدف نسف أسس الهوية الوطنية الإرترية الجامعة التي جاءت نتيجة تضحيات كبيرة قدم فيه الإرتريون كافة مساهماتهم في الكفاح من أجل تحرير إرتريا وشعبها والتي لا ينكرها إلا مكابر أو جحود.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو هل وصلت التجربة الوطنية الإرترية إلى طريق مسددود؟ وما هي السيناريوهات المحتملة لما ستؤول إليه أوضاع البلاد بعد سقوط أو زوال نظام إسياس؟ من الصعب القول إن التجربة الوطنية الإرترية قد وصلت إلى طريق مسدود طالما أن هناك قوى سياسية تسعى لحل مشكلات إرتريا والإرتريين بصورة سلمية ديمقراطية عادلة. لكن المشكلة تبقى أن سيناريوهات التغيير السياسي في إرتريا ليست واضحة. فالتخريب الذي مارسه النظام الديكتاتوري الجاثم على صدورنا جميعًا لأكثر من عقدين ونصف من عمر الدولة الإرترية المستقلة حوَّل بلادنا إلى دولة تفتقر إلى المؤسسات، ولا يحكمها القانون، وتعيث فيها عصابات “الهقدف” فسادًا وإفسادًا، وانعدمت فيها الثقة بين المكونات، وغاب البديل الديمقراطي الواضح، والقوي، والمتماسك الذي يمكن أن يسد أي فراغ سياسي محتمل. في ظل هكذا أوضاع، ليس في مقدور أي وطني غيور وحريص على وحدة إرتريا أرضًا وشعبًا سوى أن يتخوف من الاحتمالات المفتوحة والخطيرة في المستقبل، والتي يمكن أن تواجهها البلاد في حال سقوط أو إسقاط الديكتاتورية، بتدخل بشري أم نتيجة عوامل طبيعية.
ختامًا اسمحوا لي أن أطرح بعض الأفكار التي أرى أنها يمكن أن تشكل ضمانات حقيقية لوحدة إرتريا أرضًا وشعبًا، وهذه تتمحور في رأيي في النقاط التالية:
1- يجب أن نسعى جميعًا لإيجاد بيئة عمل سياسي سليمة للقوى الوطنية الديمقراطية الإرترية التي يجب عليها أن تصل إلى اتفاق حد أدنى من الخطوات العملية في حالة حدوث فراغ سياسي في البلاد. هذه القوى المتمثلة في فصائل العمل المعارض من تنظيمات وأحزاب سياسية تعكس تركيبتها بصورة واضحة ما أسميناه سابقًا في هذه الورقة بانعدام الثقة، وأشرنا إليه في أكثر من مناسبة. هذا النوع من الاتفاق يمكن أن يجنب شعبنا وبلادنا الدخول في مواجهات دامية وصراعات داخلية والتي تشهدها الكثير من البلدان التي كان وضعها في يوم ما أفضل بكثير مما نحن عليه اليوم، وتشهد اليوم تناحرات دامية بين مكوناتها.
2- التعامل مع العالم الخارجي من دول وحكومات ومنظمات إقليمية ودولية بأجندة وطنية إرترية واضحة، تؤكد على وحدة إرتريا أرضًا وشعبًا، واعتبار ذلك معيارًا للتعامل مع الجميع دون استثناء، وفرض احترام واستقلالية القرار الوطني الإرتري وصونه من أي تدخلات خارجية تهدد وحدة شعبنا وسلامة أراضينا.
3- التحالفات والاتفاقيات والوثائق المتمخضة عن لقاءاتنا ومؤتمراتنا الوطنية ليست كتبًا منزلة من السماء للتمسك بها مهما كان الثمن، والتمسك بها يأتي بمقدار ما تخدم هذه التحالفات وهذه الوثائق للأهداف الوطنية العليا للشعب الإرتري. وإذا تبين لدينا أن طريقًا معينًا نسلكه لا يخدم قضايانا الوطنية فمن الأفضل والمنطقي أن نبحث عن بدائل أخرى توصلنا إلى بلادنا بأيسر السبل وأقصرها.
4- النظر إلى الداخل الإرتري على أنه هو الحاسم في معركتنا ضد الديكتاتورية. ما نراه الآن هو أن عملنا، وجهودنا، وصراعاتنا، وخلافاتنا تتم كلها في الخارج، وليس لها أي صدى أو انعكاس على واقع شعبنا في الداخل. وإن أية حركة سياسية تعمل من أجل التغيير الديمقراطي لا يمكنها أن تستمر على هذا النهج، وإلا حكمت على نفسها بالفشل. لذا التواصل مع الداخل الإرتري يجب أن يحظى بالأولوية في كل عمل وطني تقوم به التنظيمات والأحزاب، سواء أكانت تعمل منفردة أو في إطار العمل الجماعي.
وشكرًا،،،
زين العابدين شوكاي
كاسل – ألمانيا
5/8/2017
ملحوظة:
جزء من هذه الورقة أفكارها مأخوذة من ورقة كتبها البروفيسور مامو موتشيي بعنوان:Many into One Africa, One into Many Africans – Mammo Muchie
* الورقة التي قدمها الأستاذ زين العابدين شوكاي في المهرجان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى