دراسات وبحوث

منظمات المجتمع المدني الإرترية بين الواقع والطموح *

22-Aug-2007

المركز

مدخل : شاع استخدام مصطلح منظمات المجتمع المدني في أدبيات العلوم الاجتماعية في تسعينات القرن العشرين، بعد انهيار دول الكتلة الشرقية، وفي مقدمها أكبر وأقوي هذه الدول وهو الاتحاد السوفيتي نفسه، من دون طلقة نار واحدة من المعسكر المعادي وهو الغرب وذراعه العسكري المعروف باسم حلف الأطلسي . لكننا يمكن أن نعيد جذور مفهوم المجتمع المدني إلى القرنين السادس عشر والسابع عشر، مع نظريات العقد الاجتماعي عند توماس هوبز، وجون لوك، وجان جاك روسو، وكان يشير في ذلك الوقت إلي مجتمع المواطنين الأحرار، الذين يختارون بإرادتهم الحرة شكل وشروط الحكم الذي يعيشون في ظله. وعبر مفكرو القرنين السادس عشر والسابع عشر عن شروط هذا الاختيار الحر بـ (العقد الاجتماعي) ، هو عقد افتراضي وليس عقداً حقيقياً بالمعني الحرفي للكلمة. وكانت مقدمات هذا العقد وشروطه عند توماس هوبز تفضي إلي قبول النظام الملكي المطلق الذي لا رجعة فيه. بينما كانت مقدمات هذا العقد وشروطه عند جون لوك ، وبعده عند جان جاك روسو، تفضي إلي نظام ملكي مقيد، يمكن سحب الشرعية منه إذا أخلَّ بحقوق المواطنين.

وظل مصطلح المجتمع المدني يستخدم بواسطة المفكرين الاجتماعيين حتى هيغل وماركس – أي إلي أواخر القرن التاسع عشر. ثم انزوي مصطلح المجتمع المدني إلي هوامش النسيان، وحلت محله مصطلحات جديدة أكثر جاذبية طوال القرن العشرين، لكنه عاد إلي الظهور بقوة في العقد الأخير من القرن العشرين. ويعزو المراقبون هذه العودة القوية وهذا الإحياء المصاحب لمصطلح المجتمع المدني إلي انهيار الكتلة الشرقية. وربما كان استخدام عنوان المنتدي المدني بواسطة هافيل في ما سُميَ بالثورة المخملية في تشيكوسلوفاكيا، وكانت ثورة سلمية تماماً، هو الذي أعاد مصطلح المجتمع المدني إلي قلب المسرح الفكري للعلوم الاجتماعية في العقدين الأخيرين. لكن هذه العودة لمفهوم المجتمع المدني هذه المرة ليست مجرد نبيذ قديم في زجاجات جديدة، إنها أكثر من ذلك بكثير.لقد جاء مفهوم المجتمع المدني هذه المرة مثقلاً بقيم كبيرة وعميقة ، وأول هذه القيم هو إدارة الصراع والاختلاف بشكل سلمي وديمقراطي . وتأكد هذا الارتباط بالطريقة التي حسم بها الخلاف بين الشعبين التشيكي والسلوفاكي في دولة تشيكوسلوفاكيا. فقد انفصمت وحدة الشعبين اللذين ظلا متحدين لأكثر من نصف قرن انفصاماً سلمياً، بعد أن تم استفتاء الشعبين استفتاءً حراً نزيهاً، وتحت مراقبة دولية. حدث ذلك في تشيكوسلوفاكيا التي كانت منظمات المجتمع المدني فيها أكثر نضجاً ورسوخاً منها في يوغوسلافيا مثلاً. لذلك شهدت الأخيرة حروباً دموية بشعة خلال التسعينات، لرفض حكامها الشموليين منح القوميات المختلفة في الاتحاد اليوغوسلافي استقلالها الكامل أو الذاتي.كذلك تزامن بعث مفهوم المجتمع المدني في التسعينات بالمراجعة النقدية الشاملة لتجارب وممارسات التنمية في العديد من بلدان العالم الثالث. كانت ثلاثة عقود مرت منذ أعلنت الأمم المتحدة الستينات كعقد التنمية عالمياً. أجل كان حوالي أربعين بلداً حصلت علي الاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية. وتجمعت غالبية هذه البلدان المستقلة حديثاً في باندونغ العام 1955، ثم في ما سيسمي بحركة عدم الانحياز، وفي منظمات إقليمية مثل جامعة الدول العربية (1945) ومنظمة الوحدة الافريقية (1962)، وكانت بداية عقد الستينات مملوءة بالأمل في تنمية سريعة وشاملة، تستفيد بتجارب الكتلتين الرأسمالية والاشتراكية، من دون التقيد بهما أو التبعية لهما، ولم يتحقق خلال عقد الستينات ما كان مأمولاً من الأهداف. لذلك أعلنت الأمم المتحدة في بداية السبعينات العقد الثاني للتنمية ، لكن النتيجة لم تكن أفضل كثيراً من العقد الذي سبقه. لذلك حينما أعلنت الأمم المتحدة العقد الثالث للتنمية في الثمانينات، استقبله الخبراء بفتور ملحوظ. وبالفعل انتهي عقد الثمانينات بخيبة أمل متجددة ومركبة، حيث تضاعفت ديون العالم الثالث، وزادت الفجوة بين فقراء العالم وأغنيائه، وظهرت الدعوة إلي الإصلاح الاقتصادي ، و التكيف الهيكلي واقتصاديات السوق. لكن العديد من الدراسات، بما في ذلك كتابا روبرت بوتنام ،وفرانسيس فوكوياما ، أضافت أبعاداً جديدة لفهم عملية التنمية. وكان من أهم هذه الأبعاد دور قيم وممارسات المجتمع المدني، فقد وجد الأستاذان الشهيران أنه مع وجود السياسات نفسها، إلا أن الفروق الحاسمة في معدلات التنمية من مجتمع إلي آخر (كما وجد فوكوياما)، أو من أقليم أو محافظة إلي أخري في البلد نفسه (كما وجد بوتنام بين شمال ايطاليا وجنوبها) تعود إلي وجود قيم وممارسات المجتمع المدني من عدمه. وأهم هذه القيم والممارسات علي الإطلاق هي الثقة المتبادلة ، التي تجعل كلفة التعامل منخفضة للغاية، الأمر الذي يسهل ويشجع التعاون والمبادرات الفردية والجماعية.وهكذا مع منتصف التسعينات لم يصبح مفهوم المجتمع المدني فقط جذاباً وشائعاً، وإنما أيضاً غنياً في تداعياته بالنسبة إلي عمليتي الديمقراطية والتنمية الاقتصادية، والاجتماعية، وأصبح تعريف مصطلح المجتمع المدني يتمحور حول فضاء للحرية يلتقي الناس فيه بإرادتهم الحرة، ويأخذون المبادرات من أجل أهداف أو مصالح أو تعبيراً عن مشاعر مشتركة .ومع هذا التعريف الواسع أو الفضفاض أمكن لكل ذي حاجة أو غرض أن يركب هذا المفهوم ، أو أن يضع علي ظهر المجتمع المدني ما يريد من أثقال. فأين نحن من مفهوم المجتمع المدني ؟ وهل أثقلنا كإرتريين، وربما استعجالنا ومن دون فهم كامل، مفهوم المجتمع المدني وحملناه بما لا يحتمل من معانٍ وممارسات لدرجة يفقد معها المصطلح معناه ومنتهاه؟ كما فعلنا ذلك بمصطلحات أخري من قبل مثل العدالة، والقومية، والاشتراكية، والديمقراطية – هذا ما نحاول أن نناقشه في هذه اللحظات .المجتمع المدني الإرتري :لما كان التوصيف العام لمنظمات المجتمع المدني هو كل عمل منظم في الحيز بين الأسرة والدولة ، ولا يسعى إلى التنافس في السلطة فإننا في المجتمع الإرتري سنجد أن واقعنا يجانب ما أتفق عليه من محددات التعريف ، لانعدام الدولة إلى وقت قريب ولجنوحنا للعمل العسكري لإيجاد هذه الدولة ، لكن بالعودة إلى فترة نهاية الأربعينات إلى بداية جبهة تحرير إرتريا قد نجد بعد اللبنات التي مثل الكيانات العمالية ، والطلابية ، والنسوية وهي تجارب تستحق الدراسة منفصلة ذلك أن مصطلح المجتمع المدني لم يكن بهذه الثراء وهذا التوسع حينذاك ،وطوال فترة الكفاح المسلح تعتبر كافة المنظمات رديفة للتنظيمات السياسية ومن هنا بشكل أو آخر تجانب بعض مضامين المصطلح ، بيد أننا لا نستطيع أن نلغى كافة تلك التجارب باعتبارها لم تكن نموذجاً متكاملاً لمضامين وأطر المصطلح ، إذ أنها بشكل أو آخر تعتبر بداية واعية في الطريق ، لعدة أسباب منها أهمية تأطير الجماهير حول قضايا ليست بالضرورة أن تكون سياسية بل يمكن أن تكون مطلبيه محدودة ، والأمر الآخر الوعي المبكر بأنه ليست كل القضايا تحل سياسياً أو عسكرياً وهذا الإدراك بعد تنميته وتطويره هو الذي سيتيح للمصطلح بالنمو والازدهار .ومن هنا فإننا يمكن أن نناقش أطر ومضامين المفهوم بصورة واضحة عقب التحرير وبروز الدولة الإرترية ككيان ذي سيادة .نستطيع أن نقول أن قيم إدارة الصراع بشكل سلمي والديمقراطية والتنمية تعتبر روح العمل المدني ولأنها تجافي ما هو عليه الحال في الوطن حيث تتعارض مع مفاهيم ومصالح الحاكمين ، لذلك من العسير البحث عن منظمات مجتمع مدني في مثل هذا الواقع بتشجيع من الدولة ، ولكن ذات الحال دفع المثقفين الإرتريين لمحاولة تأطير أنفسهم في كيانات وواجهات تحمل بعض من ملامح ومضامين منظمات المجتمع المدني وذلك للعوامل التالية : 1- المشاركة في الحياة العامة كجزء من استعادة حرية العمل بشكل عام ومستقل .2- ضعف التنظيمات السياسية القائمة ، والفراغ الكبير الذي تركه هذا الواقع. 3- محاولة المشاركة في اختيار وبناء النظام السياسي البديل . 4- معالجة التدهور في الوضع الإنساني وخاصة في مجال الإغاثة و الخدمات الأساسية كالماء والصحة وغيرها . 5- الدافع أو الوازع الديني . 6- التدفق الكبير للمنظمات غير الحكومية العالمية . 7- توفر مبالغ كبيرة للتمويل حيث نجد أن الهيئات والمنظمات الدولية تبحث عن شريك محلي على معرفة بخلفية المجتمع الذي تعمل فيه .نستطيع أن نقول أن منظماتنا المدنية على تواضعها نشأت نتيجة إلحاح واقع محلي وظروف تشجيع عولمي ولأنها نشأت وفق هذه المعادلة فإنها تتميز بكثير من نقاط القوة كما تعتريها كثير من نقاط الضعف نذكر منها :- نقاط القوة :1- المعرفة بالبيئة ( البلد ، الشعب ، الثقافة ،العادات ….الخ .) .2- العلاقة الجيدة مع المجتمع نتيجة ضعف ثقته بالتنظيمات السياسية القائمة . 3- وجود الدافع والقدرة على المشاركة في إعادة البناء . 4- المستوى العالي من التعليم عند الغالبية . 5- هناك تخصص بقدرات تكنيكية .6- الرغبة في إبداء المساعدة . نقاط الضعف : ولعل أبرزها هو أنها تعمل خارج الوطن وإن كان لبعضها صلات به ولكن بالجملة يمكن أن نحدد هذه النقاط :1- الافتقار إلى رؤية إستراتيجية وأهداف واضحة ، و ضعف المعرفة بمبادئ العمل الإنساني وطرق عمله . 2- ضعف الهيكل التنظيمي والافتقار إلى الخبرات السابقة والإدراك الضعيف لأهمية دوره.3- الافتقار إلى الموارد المحلية وكذلك مشاركة المستفيدين في العملية .4- عدم ثبات الوضع السياسي .5- ضعف الإطار القانوني . 6- عدم إمكانية العمل بدوام كامل بالنسبة للكادر كون معظمهم من المتطوعين .7- عدم وجود علاقة واضحة مع الجهات الحكومية .8- ضعف التنسيق و التشبيك بين المنظمات .9- تأثير و تبعية بعض المنظمات للأحزاب السياسية و التيارات الدينية مما يفقدها الاستقلالية و المصداقية في العمل الميداني .10- توجهات العمل وأساليبها يغلب عليها طابع العقلية الشمولية التي لم تستوعب بعد مضامين العمل المدني . ومن هنا فإن النهوض بهذه المنظمات في تقديري يتطلب جهداً كبيراً ولعل أبرز الاحتياجات هي : 1/ مصادر التمويل الثابتة .2/ هناك حاجة لوجود منابر للحوار والمناقشة لإعادة بناء الثقة بين المجتمع وهذه المنظمات .3/ التنسيق ، وتبادل المعلومات و المشاركة في الخبرات . 4/ زيادة شبكة العمل على المستويين الإقليمي والدولي .6/ الاستفادة من خبرات المنظمات العاملة في السودان والدول المجاورة الأخرى .7/ التدريب والتأهيل خاصة في الأتي :أ/ إعداد النظام الداخلي ، وكيفية تأسيس المنظمات .ب/ البناء الديمقراطي للمنظمات .ج/ إعداد التقارير وتهيئة المشاريع .د/ الميزانية والإدارة المالية والعلاقة مع المانحين .هـ /الإدارة والقيادة .ز/ استخدام تكنولوجيا الاتصال .ح/ زيادة المعرفة في مجالات حقوق الإنسان ( الجندر ، حل الصراعات ، الصحة ، وحماية الطفل وغيرها …) .خاتمة :على الرغم من الدور الكبير الذي بدأت تضطلع به منظمات المجتمع المدني في العالم ، فإنها في المجتمع الإرتري لا تزال في طور التكوين والبدايات ، وهذه المرحلة تشكل مرحلة حاسمة لمستقبلها ،فإن أخذت بالنسق العولمي في كافة مضامينها وأطرها مراكمة ذلك على الواقع والتراث الإرتري فإنها دون شك ستنجح في مهمتها ، وإن تقاعست عن ذلك وظلت أسيرة للقيود السياسية ، والهيمنة الحزبية والتنظيمية فإنها ستراوح مكانها ، ومن هنا يصبح أمر مثل هذه الورش أمر في غاية الجدوى الأهمية حتى يضع القائمين على هذه المنظمات على مسئولياتهم المباشرة تجاه نسق عالمي أصبح أهم ملامح الألفية الثالثة .إعداد : عبدالرازق كرار*هذه الورقة قدمت في ورشة مركز التعايش والحوار بشرق افريقيا بالخرطوم يوم الأحد 19/أغسطس 2007م

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى