مقالات

وثائقي الجزيرة .. يكشف جرحاً غائراً تحت المجهر .. مأساة إنسانية هائلة … وفضيحة بجلاجل .. محمد علي صالح هنتولاي

21-Aug-2014

عدوليس

شاهدت بالأمس الفيلم الوثائقي الذي أنتجته قناة الجزيرة عن أوضاع اللاجئين الإرتريين في شرق السودان .. كان عملا توثيقيا فريداً من نوعه .. على الأقل بالنسبة لي والكثيرين من أمثالي ..

شخوص الفيلم والقصص التي تضمنها لم تفارق مخيلتي حتى اللحظة… فعندما تشاهد أنثي مغلوبة على أمرها تتحدث وفي حجرها طفلاً لم يكمل عامه الثاني .. تحدثك عن رحلة البحث عن الأمان .. وكل زادها في تلك الرحلة الشاقة.. قارورة ماء .. نصف لتر .. تمزج فيها بقايا سكر .. مع شيء من الملح حتى تقوى هي وصغيرها .. على مواصلة المسير ..
ويحدثك آخر عن أنه دفن بيديه أكثر من 18 شاب في صحراء سيناء ذهبوا بحثا عن الأمان ولقمة العيش الكريم .. أعمارهم جميعاً حول الثامنة عشرة .. ثم يتنهد ويقول .. أريد الهجرة حتى إلى الموت نفسه ..
لا أريد أن أقص عليكم حكاية الفيلم الوثائقي من أولها .. لكن هذه من المشاهد التي لم تفارق مخيلتي لحظة واحدة منذ أن شاهدتها.
عندما تشاهد هذه العينات المختصرة من معاناة هائلة يعيشها الإرتريون في معسكرات اللجوء .. تسْوَدُّ الدنيا أمام عينيك.. بالرغم من أن هذه هي قصة (الذين هم أوفر حظاً بالنسبة لآخرين لم ولن.. تصل إليهم كاميرا الجزيرة) …
نعم .. هناك قصة أخرى .. لن نجد اليوم من يقصها علينا .. إنها حكاية الذين لم يتمكنوا من الوصول إلى هذه المعسكرات .. تقطعت بهم السبل .. أدركهم زبانية النظام .. أكلتهم الذئاب في الأحراش .. ما توا بالجوع والعطش .. أو اختطفتهم عصابات الرشايدة إلى سيناء .. فحولهم سماسرة تجارة الأعضاء إلى قطع غيار بشرية.. وأخرون ركبوا المحيطات هروبا من جحيم النظام فأصبحوا طعاماً لحيتانها .. دونكم نعوش البحر الأبيض المتوسط .. وتوابيت لامبيدوزا .. فكل نعش .. وكل تابوت .. ذهب وبداخله قصة لم تروى .. أشد إيلاماً من الكثير من القصص التي سمعناها بالأمس.
لكن على رسلكم أيها السادة .. هناك قصة أخرى أكثر عمقاً من هذه التي سمعناها بالأمس .. وأشد منها فتكاً بكل من يحمل بين جنبيه قلب ينبض .. إنها قصة الإرتريين في الداخل .. (داخل البلاد .. وداخل السجون) بكل تفاصيلها وويلاتها .. لم يأتي دورها بعد.. بالمناسبة .. نحن مشروع كبير لإنتاج الآلاف من الأفلام الوثائقية.
خلال فترة عرض الفيلم التي لم تتجاوز 48 دقيقة تواريت عدة مرات عن صغاري الذين لم يدركوا بعد سبب ما اعتراني من مشاعر وأنا أشاهد ذلك الفيلم .. شعروا بأن هناك أمر جلل .. كانت أعينهم تحمل الكثير من الأسئلة .. بينما عيناي غشيها الطشاش من شيء آخر.. لم أجرؤ على أن أفسر لهم الأمر … خشيت أن لا يعاجلني أحدهم بسؤال: ماذا فعلت؟ .. وماذا ستفعل ..أنت وجيلك؟ فقلت السكوت أرحم … حسبنا الله ونعم الوكيل.عدة أسئلة لم تفارق مخيلتي ولو للحظة.. وأنا أشاهد تلك المأساة .. ما العمل ؟ كيف السبيل إلى الخروج من هذا النفق؟
لكن في النهاية .. لابد من البحث عن حلول عملية يا جماعة !!
أنا شخصياً .. مللت من لوم النظام وزبانيته .. ومشاريعه القديمة المتجددة .. فهو معذور .. يريد إرتريا لفئة دون غيرها .. وهذه حقيقة يعرفها القاصي والداني .. فعندما تلكأ في البداية في استقبال اللاجئين الذين كانوا في هذه المعسكرات .. الرسالة كانت واضحة .. وربما كانت هناك تفاهمات مع أنظمة أخرى تعيسة .. على إبقاء هؤلاء اللاجئين في معسكراتهم .. أو دمجهم في وطن بديل .. حدث هذا منذ أكثر من عشرين عاماً على الأقل.. قصة النظام معروفة.. ولا نحتاج إلى من يقصها علينا الآن..لكن أين المعنيين بالأمر ؟؟!!
لن أقول أين تنظيمات المعارضة الإرترية هذه المرة … فلو كان فيهم خير .. ما كان لنا أن نشاهد هذه المأساة بعد مضي أكثر من 23 عاماً على استقلال كامل التراب الإرتري ..
فمن المفارقات المحزنة .. النظام في إرتريا .. ومنذ عشر سنوات على الأقل .. لا يهيمن على مصير الشعب الإرتري بقوته .. ولا بعدته أو عتاده .. فهو منذ الحرب الأخيرة التي دارت بينه وبين حلفاء الأمس أعداء اليوم .. أصبح كالنطيحة .. وما أكل السبع .. أصبح كالشاة المتردية .. فقط تحتاج إلى من يقوم بتذكيتها .. حتى يستفيد الناس من جلدها على الأقل .. غير أن معارضتنا (المترفة) عجزت حتى عن هذه المهمة. وفي ظل هكذا معارضة .. لم نعد نستغرب عندما نرى إسياس بعد أن ملأ السجون من جميع النخب الإرترية على اختلاف مشاربها .. لا نستغرب أبداً .. عندما نراه يتجول في الطرقات آمناً لا يخشى أحداً .. بل يسافر في رحلات برية إلى الدول المجاورة .. تشق سياراته السهول والوديان دون أن تشوكها شائكة .. لا يخشى إلاّ رمال وديان إرتريا المكلومة .. التي قاومته وحدها .. والذئب على غنمه.
إذا أين المخرج ؟؟!!
أكاد أزعم .. إن لم أكن جازماً .. أننا حتى الآن لا نملك من يقاوم هذه العصابة بالسلاح.. ولكن علينا أن نلتفت إلى جانب هام .. طالما أهملناه كثيراً .. يجب علينا التوجه إلى النخب المستنيرة مباشرة هذه المرة .. دعونا من الحرس القديم وقيادات (أبوجي طعنتا يحدرا) … نعم يجب أن نبحث عن حلول مبتكرة.. ووجوه جديدة وعقول معافاة من الكثير من العلل التي ظلت تتوارثها قيادات المعارضة التقليدية.. لنتجه إلى الجمعيات المهنية .. وأهيب بكل الإرتريين في مشارق الأرض ومغاربها إلى تجميع أنفسهم في جمعيات للأطباء والمهندسين والقانونيين والأدباء والفنانين والكتاب والصحفيين والمترجمين.. وهلم جراً .. جمعية لكل مهنة وحرفة وصنعة (بدلا من إنشاء تنظيم سياسي لكل منطقة أو قومية أو قبيلة)..
ثم لنشكل مجلساً مركزياً أو هيئة عليا … سموها ما شئتم .. تضم كل هذه المنظمات المهنية تحت سقف واحد.. وأكاد أجزم حينئذ أننا سنجد أمامنا كماً هائلاً من النخب المستنيرة التي تملك الكثير من الأدوات التي يمكن أن تخرجنا من هذا النفق الطويل..
والله المستعان
hintolai@gmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى