حوارات

شوكاي : في إريتريا السياسي والسياسة يتغولان فعلًا على المجالين الثقافي والأكاديمي

7-Dec-2016

عدوليس ـ ملبورن

في اطار حوارات ( عدوليس ) مع الإطارات الأكاديمية والمشتغلين بالشأن الثقافي والنشطاء في المجالات المدنية ، يأتي هذا الحوار مع الأكاديمي والمترجم والمثقف الإريتري زين العابدين شوكاي وفيها يتحدث عن عدد من الهموم التي تشغل بال المواطن الإريتري عامة ومفاهيم السياسي والثقافي في علاقتهما وتضادهما ، كما أبان أسباب عدم إسهام المثقف الإريتري في الحياة السياسة. وتحدث شوكاي عن الدولة الفاشلة ، وتطور الأدب المكتوب

باللغة العربية في إريتريا مقترحا صندوق لدعم الإبداع والمبدعين.كما تناول ظاهرة ” تسفاظيون” واسبابها وطرق مواجهتها.
حاوره : جمال همـــــــــد
/ الفضاء الإريتري يبدو مغلقًا ولا ضوء في نهاية النفق، حسب رأي الكثيرين، هل تتفق معهم؟ وكيف تقرأ ذلك؟
لك شكري أخي جمال ، ولموقع عدوليس فائق احترامي وتقديري على هذه الإستضافة الكريمة ن مع أملي أن تتكرر هذه الحوارات في المستقبل لأن حياة الأفراد والجماعات تثريها الحوارات والنقاشات التي تجري بداخلهم ، وهم بالفعل وبشكل من الاشكال معيار جيد لتحسس مشكلات المجتمع وللحديث عن الحلول وآفاق جديدة لحل المشكلات.
اعود لسؤالك وأقول :
نعم، أنا أوافق على الرأي القائل إن إريتريا في مجملها في مأزق، حكومة ومعارضة وشعب أو كيان. ويبدو أن الوضع السيء الذي وصلت إليه بلادنا لم يكن يخطر على بال أكثر الإرتريين تشاؤمًا من التجربة الوطنية الإرترية التي كانت تعاني من عثرات حقيقية وكبيرة خلال مسيرة الثورة الشعبية التحررية المسلحة التي شهدتها البلاد، من تصفيات داخلية وانتكاسات، والتي كانت تتخللها بين حين وآخر انتصارات سياسية وعسكرية واختراقات دبلوماسية، حتى تحقق استقلال البلاد من ربقة الوجود الأجنبي “الإثيوبي”، بفضل بسالة وتضحيات كل الإرتريين. أما ما تلت سنوات الاستقلال من أحداث، وذلك خلال عقدين ونصف منذ استقلال البلاد، فهي تداعيات كارثية بامتياز وعلى كافة المستويات. فبعد أن كانت البلاد تعاني من نظام ديكتاتوري باطش ذي الحزب الواحد، تحول هذا النظام تدريجيا إلى نظام أحادي الفاعل والتارك فيه شخص واحد، أعماه غروره وتحكمه على أدوات البطش بشكل مؤقت عن قراءة قوانين التغير والتطور بصورة واضحة، وبالتالي زج بالبلاد في نفق مظلم ومعتم بصورة لم تكن تخطر على بال الكثيرين. صفحة النظام الإريتري مليئة بجرائم ضد الإنسانية يندى لها الجبين، ولا مجال هنا للحديث عنها بالتفصيل، بحكم أن المتابع للوضع العام في البلاد مدرك لحقيقة المأزق الذي وقعت فيه إريتريا، إلا أن دخول البلاد وأبنائها في نفق مظلم أو فضاء مغلق ليست مسؤولية النظام القائم في البلاد وحده، وإن كان النظام ومؤيدوه يتحملون النصيب الأكبر، فاهتراء قوى المعارضة وتشتت قواها بصورة مؤلمة، وعدم قدرتها على هزيمة نظام إسياس أفورقي، تعتبر كارثة إضافية حدَّت من قدرة شعبنا على التفاؤل بالمستقبل بصورة كبيرة. وإذا نظرنا اليوم إلى أوضاع الإريتريين فهي سيئة للغاية في كافة مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية مقارنة بالمستويين الدولي والإقليمي. والخروج من هذا الفضاء المغلق أو النفق المظلم يتطلب تضحيات ربما هي أقل بكثير من الموت غرقًا في البحار التي أصبح شبابنا يختارها ليصبح وجبات دسمة لحيتان البحار بشكل دوري ودون انقطاع، وأصبح البعض منهم نهبًا لعصابات المتاجرة بالأعضاء البشرية، ومع ذلك يزداد عدد الذين يخوضون المغامرات ليلتحقوا بهذا الركب الكارثي، وهنا يجب أن تتضافر الجهود لوقف هذا الاستنزاف، وإيجاد حلول جماعية ومجتمعية، نسد بها مسارات النزيف المستمر على كل الأصعدة، وإن لم نفعل ذلك في أقرب وقت ممكن، فالله وحده أعلم بما سيؤول إليه مصير إريتريا وشعبها.
2/ الدولة الوطنية الإريترية دخلت سريعًا في الطريق السريع المؤدي لما يُسمى بالدولة الفاشلة، ماهي مسببات ذلك؟ وكيف السبيل للتراجع عن ذلك؟
يبدو أن الإجابة على السؤال الأول تتضمن جزءًا من الإجابة على السؤال الثاني. أحد أقوى الأسباب هو أن السلوك التدميري الذي انتهجه نظام إسياس، كانت الكثير من عوامله كامنة في فترة ما قبل التحرير، ولم تتم معالجتها في حينها لصالح التطور الإيجابي والصحي في جسم الثورة الإريترية. في اعتقادي إن الحديث المفصل عن المسببات وفي هذه العجالة أمر متعذر، لكن لا بأس من الإشارة إلى بعض الجوانب التي أدت إلى ما نحن عليه اليوم من وضع سيّء وظاهر للعيان. ظهرت في الآونة الأخيرة اعترافات كثيرة وجريئة بما كان يحدث داخل الجبهة الشعبية من صراعات وتصفيات إجرامية صبت جميعها لصالح إسياس، ومهدت الطريق بيسر وسهولة لهذه الجريمة التي نشهدها تتم اليوم بحق بلادنا وشعبنا أن تكتمل، حيث تمت عملية سطو منظم بداية على نضالات الشعب الإريتري كله، وتوجيهه لصالح نهج تصفوي إقصائي معين داخل الجبهة الشعبية، ثم تمت تصفية الرموز الوطنية البارزة داخل الجبهة الشعبية قبل التحرير وبعده. وبعد أن تمت تصفية العناصر التي يمكنها أن تقض مضجع إسياس، لم يبق معه اليوم إلا ضعاف النفوس الذين لا يستطيعون رفع أعينهم على ولي نعمتهم. ركب إسياس طريق المخاطر والمغامرة مرات عديدة بهدف توطيد سلطانه، ويبدو أن ميزة التآمر، إن كانت هذه ميزة من أساسها، وقدرة إسياس على اتخاذ القرار السريع، كانت تُمكِّنه دومًا من أخذ المبادرات ومفاجأة خصومه. كما يبدو أن خلفية إسياس الاجتماعية والثقافية، شكلت عوامل ساهمت في تركيبة هذه الشخصية الشديدة التعقيد، والتي وضعت إريتريا وشعبها في “أوتوستراد” الموت والهلاك والدمار إن صح التعبير، وهو ما أسميته أنت الطريق السريع المؤدي نحو فشل الدولة الإريترية، بعد أن ولدت و قبل أن يشتد عودها، ومن مسؤولية الجميع وقف هذا العبث الذي ظل إسياس يمارسه على الجميع دون أن يتمكن أحد من إيقافه لسنوات طويلة.
أما الحديث عن تدارك حالة التردي المستمر هذه والتي تستنزف طاقات وإمكانيات شعبنا الشحيحة أصلًا فهو حديث طويل وذو شجون، وفيه الكثير من المرارات التي يحس الإنسان بطعمها بمجرد الحديث عن قوى التغيير. أنا شخصيًّا لا أُحمِّل مسؤولية الفشل لمن هم في ساحة العمل ويحاولون أن يقوموا بفعل ما، رغم كل الصعاب والأخطاء، بعضها فادح وجسيم، وبعضها الآخر أقل فداحة، بل أُحمِّل نفسي وغيري، ممن هم داخل التنظيمات وخارجها بصورة جماعية، في حالة العجز واليأس التي وصلنا إليها. هناك من يرى جزءًا من صورة الواقع المتردي ويعتبرها كل الحقيقة، وهناك أصلًا من لا رؤية له، أو أن رؤيته هي عبارة عن تمنيات وأوهام خلقها بنفسه ثم صدقها، ولا تمت التحليلات التي يقدمها هذا البعض للواقع بصلة، بل هي أفكار رغبية وغير واقعية. هذا الخليط العجيب من ضبابية الرؤية، والفشل المتكرر لمعظم مشروعات قوى المعارضة، جعل المعارضة وقواها التي كان يُعوَّل عليها شعبنا لإخراجه من هذا المأزق عاجزة، بل أصبحت هي المأزق، بدل أن تكون الحل أو على الأقل جزءًا منه. ولم نجد حتى الآن صيغًا ومبادرات تجمع الأطراف المختلفة بنجاح، وتقنع جماهير شعبنا بالالتفاف حول المعارضة لإسقاط نظام “هقدف” البائس. الاستمرار في المحاولات وإتاحة الفرص لأصحاب الأفكار الجادة والبناءة لطرح مبادرات جديدة قد تأتي بنتائج، لكن أي تأخير وإطالة عمر النظام بهذه المماطلات التي تتم في كافة المشروعات التي تهدف إلى تقوية قوى المعارضة ستكون على حساب مستقبل الوطن والأجيال. داء قوى المعارضة حتى يومنا هذا هو عقلية التشويه والإدانة وتسفيه الآخر لمجرد الاختلاف في الرؤى والتصورات، والدخول في صراعات ومواجهات تهدر الطاقة والزمن الذي نحتاجه للاستفادة منه بصورة عملية وعقلانية، بعيدًا عن الشخصنة والدخول في صراعات عقيمة المتضرر الأول منها هي القطاعات الأكثر عرضة من المجتمع.
والمشكلة الأخرى الكبيرة التي تعاني منها المعارضة أيضًا هو عدم قدرتها على اختراق الداخل الإريتري المعني بعملية التغيير برمتها، وتهديد النظام من الداخل. وإذا لم تحقق المعارضة أي اختراق للداخل، وتربط مصيرها بشعبها بوشائج قوية، فكل الجهود التي تبذل في الخارج ستكون قليلة الفائدة في أفضل الأحوال، بل يمكن أن تتسبب في رهن شعبنا ومصيره بيد قوى دولية ومحلية كانت في عداء تاريخي مع تطلعاته في أسوإ الأحوال. هذه الشكوى ليست من عندي، بل الكثير من قوى المعارضة نفسها تجأر بهذه الشكوى، ولا تفعل ما ينبغي عليها أن تفعله لتصحيح أوضاعها، أهمها العودة إلى شعبها وجماهيرها وكسب ثقتهم بوضع معالجات سليمة لأوجه الخلل التي تعاني منها.
3/ المثقف والأكاديمي الإريتري لا يزال بعيدًا عن الإسهام الحقيقي في الحياة السياسية والإجتماعية وحتى الثقافية، وهي مجال إشتغاله. ولا يزال بعضهم يعمل أجيرًا لدى السياسي الذي فشل منذ عقود في الحكم والمعارضة، بماذا تعلق؟
تعليقي التلقائي على هذا السؤال هو أنه يتضمن على جزء من الإجابة عليه، ولو حاولنا التوسع قليلًا في محاور السؤال، سنكون في رأيي بحاجة للحديث ولو بشكل مختصر عمن هو المثقف والأكاديمي أولًا، ثم الحديث بنفس الاختصار عن علاقة السياسي بالثقافي والأكاديمي، وهي موضوعات بحث جاد بعيدًا عن الارتجال والعاطفية. هناك الكثيرون من الذين كتبوا وتحدثوا في مناسبات شتى عن تداخل وتشابك تلك العلاقات، وحاولوا تفكيك تعقيداتها لفهمها بصورة أفضل، ووضع القارئ في الصورة التقريبية لمقاصدهم. وتتوقف مساهمات الأكاديميين والمثقفين الإريتريين على وجود واقع صحي للمعارضة الإريترية، وهذه كما أسلفنا لها مشكلات عديدة تجعلها غير قادرة على الاستفادة من كل الكفاءات الإرترية الموزعة حول العالم. والمثقفون والأكاديميون أنفسهم لم يصبحوا حتى هذه اللحظة تكتل يحسب له الحساب، لأنهم لم يوجدوا لأنفسهم القنوات والمنابر التي تُمكِّنهم من الإسهام في إخراج الشعب الإريتري من وهدته ومعاناته. علاقة هذه الفئات بالسلطة والقوى السياسية الأخرى محكومة بظروف التخلف الكبير الذي نعاني منه جميعًا، ولم تتأهل فئات المثقفين والأكاديميين من التميز والبروز، ولعب دور ريادي في مجتمعها في عملية البحث عن مخارج آمنة من حالة التردي التي نعاني منها جميعًا. في بعض المواقف أرى بوضوح الصفة الانتهازية في مسلك بعض الأفراد والتجمعات التي تضم ما يعرفون بالمثقفين والأكاديميين، مع تحفظي الشديد في المبالغة في استخدام مصطلحي “المثقفين” و”الأكاديميين” االفضفاض، ومن الصعب تحديد هويات من ينتمون إليه بوضوح لتوجيه النقد البناء إليهم وإلى أدوارهم عبر قنوات التأثير عليهم، لأنه لا وجود لمثل هذه الآليات.
والإشكالية الأخرى التي أراها في هذه العلاقة أيضًا هي، كيف يتم تحديد وتعريف الأفراد الذين ينتمون إلى هذه الفئة، ومن الذي يستخرج لهم شهادات الأهلية، بحكم أن مصطلحات مثل “مثقف” أو “أكاديمي” أو “متعلم” هي مصطلحات تم استهلاكها بصورة كبيرة، ليس في المجتمع الإريتري وحده، بل في كل المجتمعات التي تعاني من نفس مشكلاتنا. هناك عدد من الإشكاليات من بينها على سبيل المثال: إشكالية المداخل المستخدمة لدراسة العلاقة بين الأكاديميين والمثقفين من جهة، وبين مجتمعاتهم، وهل تدرس هذه الظاهرة من زواياها المجتمعية أم الفردية، وهل هناك في إريتريا فئات يمكننا أن نطلق عليهم بمثل هذا التعميم “مثقفين” و”أكاديميين” إريتريين، أم أن خلفياتهم الاجتماعية والثقافية الضيقة أقوى منهم ولا تُمكِّنهم من الفكاك منها لمحاكمة الكثير من الظواهر بعد التحرر منها؟ كل هذه وأسئلة أخرى كثيرة بانتظار الرد منا.
أكرر وأقول إن ضبط المفاهيم يمكن أن يكون عاملًا مساعدًا للحديث عن ظاهرة معينة، والحديث عن ظاهرة المثقفين والمتعلمين وأدوارهم في مجتمعاتهم، لن يتم إلا إذا وجدت مؤسسات تسمح لهم بالمشاركة الفاعلة في رفع مستوياتهم ومستوى مجتمعاتهم، وتسمح للآخرين بمشاهدة هذه الإسهامات ليشهدوا لها أو عليها. فعلى سبيل المثال لو كانت هناك مؤسسات كالجامعات، ومعاهد البحث العلمي، ومراكز الدراسات، والنقابات، والاتحادات، كنقابات أو اتحادات الصحفيين، والكتاب، والمحامين والأطباء وغيرهم، عندها كان بالإمكان أولًا دراسة العلاقة بين هذه المؤسسات وبين السلطة السياسية والقوى السياسية الأخرى، وثانيًا مطالبة المؤسسات والنقابات والقائمين عليها للقيام بأدوارها في القضايا العامة، وفي الاختصاصات المتباينة. ما لدينا نحن الإريتريين اليوم من أكاديميين ومثقفين معظمهم في الخارج، وهؤلاء لم يتمكنوا من تنظيم أنفسهم بالدرجة الأولى حتى يتمكنوا من الإسهام عبر هذه القنوات والآليات المحددة الهوية والأهداف. إذًا، أزمتنا هي في القنوات الديمقراطية التي تتيح للمواطن الإريتري كل من موقعه للمساهمة في إخراج وطننا وشعبنا من أزمته، وبالتالي هي أزمة “مشاركة” وأزمة “تنظيم”، والتي لا تتوفر إلا في بيئات ديمقراطية، سواء في الداخل أو الخارج، ونحن عجزنا، كمناضلين من أجل إرساء قيم الديمقراطية في بلادنا، عن إيجاد الهياكل والمؤسسات الديمقراطية التي تتيح المشاركة وتُنمِّيها وتُطوِّرها، حتى وإن كنا خارج بلادنا، خاصة في البيئات الديمقراطية التي تتيح لنا مثل هذا الأمر. هذا التداخل العجيب والارتباك الذي نراه في المشهد الإريتري في مختلف الأدوار والعلاقات، يكرس معاناتنا جميعًا، ولا يتيح للأفراد والجماعات الارتقاء بأنفسهم وبمجتمعاتهم، مع الأسف الشديد.
4/ خلال السنوات العشر الماضية تحدث الكثيرون عن دور أو أدوار ما سُمِّيت بمنظمات المجتمع المدني، فهل هنالك بالفعل منظمات مجتمع مدني إريترية؟
تنسحب إشكالية الديمقراطية التي تحدثنا عنها في الإجابة السابقة في عدم وضوح دور المثقفين والأكاديميين على مشكلة وجود مجتمع مدني إريتري متطور ومتماسك وله إسهاماته. وحتى لا نظلم من هم في الساحة ويتحركون، يمكن القول إن هناك إرهاصات لوجود منظمات مجتمع مدني إريترية في المنفى ولو بصورة خجولة، وبشكل أقل بكثير من طموحاتنا ونضالاتنا كشعب. وهنا برز دور المنظمات الشبابية بصورة أفضل من غيرهم، ومساهماتهم في التظاهرات التي حدثت في جنيف ونيويورك، وفي المناسبات المختلفة التي حدثت وتحدث في السويد وبريطانيا وأستراليا وغيرها هي انعكاس لهذا الفهم المتجدد للأدوار وللمشاركة السياسية وفي فضح النظام المجرم الذي تسبب في مأساة بلادنا ومعاناة شعبنا. بقي مرة أخرى أن نؤكد على أن التطور الديمقراطي الذي تصله الشعوب يقاس بمعيار المشاركة التي من خلالها يبرز دور المجتمع المدني، وهنا أيضًا يلعب المثقفون والأكاديميون دورهم في تحريك وتنظيم وتفعيل القطاعات المهملة وذات المصلحة الحقيقية في التغيير الديمقراطي الذي نأمل أن تشهده البلاد. أمامنا عمل دؤوب لإيجاد مثل هذه المؤسسات، لكن يجب أن يسبقها بداية حدوث تغيير في الداخل الإريتري، وهذا في حد ذاته محفوف بالكثير من المخاطر، لأن سيناريوهات التغيير المحتملة في إريتريا في مجملها لا تبعث في النفس الطمأنينة.
5/ هل هناك تغول من السياسة على الثقافة في مجمل الحياة في إريتريا ومنها تحديد نوع اللغة التي يفترض أن تكون رسمية ويتم التعليم بها.. الخ؟ وما هو الدور المفترض الذي يمكن أن يلعبه المثقف والأكاديمي الإريتري في هذا الإطار ؟ وإشكالية اللغة في إريتريا تحولت إلى إشكالية سياسية، برأيك هل هنالك إشكالية فعلًا؟
هناك ضعف واضح في تنظيم المثقفين والأكاديميين أنفسهم، على الأقل لمن هم في الخارج. أنا مثلًا أعرف أن هناك عددًا كبيرًا من الأطباء وغيرهم من العاملين في القطاع الصحي هنا في السويد، وهم من خلفيات مختلفة وتجارب متباينة، ويمكنهم أن يقدموا مساهمات نوعية لتحسين ظروف أهلهم على الأقل في مناطق اللاجئين، وأن يحظوا بالدعم المادي والتأييد المعنوي من مجتمعهم الإرتري والسويدي أيضًا، والحصول على مساعدات كبيرة في المجال الطبي، لكن ونسبة لعدم تنظيم أنفسهم تفوت على المحتاجين الإريتريين وهم كثر مثل هذه الفرص. وهنا لا أستطيع أن ألوم السياسي لأقول إنه قد تغول عليهم، ومنعهم من ممارسة أدوارهم، بل الإشكالية تكمن في عدم وجود ثقافة التنظيم والمشاركة كما سلف وأشرنا.
وفي بعض المجالات نرى أن السياسي والسياسة يتغولان فعلًا على المجالين الثقافي والأكاديمي ولا يتاح للمتخصصين ممارسة دورهم، كموضوع اللغة مثلًا، بحكم طبيعته السياسية التصارعية أيضًا. اللغة موضوع خطير وحساس، ففي الوقت الذي يرى فيه طرف بأنه فرصة للتطور والنمو والخروج من الأطر الضيقة لآفاق أرحب، كما هو حال المسلمين الإريتريين، في تبنيهم للغة العربية كقاسم مشترك بينهم، رأى فيها غيرهم بأنه تهديد لهويتهم القومية والدينية، ولغتهم، وبالتالي عندما وصلوا إلى السلطة حاولوا جاهدين للحد من انتشار اللغة العربية كما هو الحال في إريتريا اليوم، ومحاربتها بكل الوسائل المتاحة. هنا يجب أن يستوقف المثقفون والأكاديميون من حملة الثقافة العربية نظراءهم من التجرينيين لمناقشة موضوع اللغة بطريقة تتسم بالوضوح والصراحة كلما تتاح لهم الفرصة. ويجب أن يكونوا أصحاب المبادرة في إثارة هذا الملف، والمساعدة على تحديد المشكلة.
هناك اليوم ودون شك إشكالية في تشخيص الواقع في إريتريا، بحكم طغيان الحالة الطائفية على البلاد، حتى في أوساط المثقفين والأكاديميين. واستفحلت مشكلة الطائفية إلى الحد الذي يمكن لأي شخص أن يقول ما لم يكن مقبولًا على الإطلاق قبل سنوات قليلة بالمعايير الوطنية والإنسانية العامة. الاختبارات التي تعرض لها الإريتريون لم تثبت لنا حتى الآن على الأقل بأن هناك تيارات ومنابر تتيح لأصحاب الرأي والفكر من الأكاديميين والمثقفين من الطرفين بالتلاقح الفكري المأمول منه أن يتجاوز هذه الحالة الطائفية والإسهام في إخراجنا من هذه الاستقطابات المقيتة. غياب الحريات بكل أشكالها وهيمنة الأفكار المسبقة والتحاملات المتبادلة تشكل عائقًا كبيرًا أمام التلاقح الفكري الوطني.
كنت قد تحدثت ذات مرة عن إشكالية اللغة عبر فيلم قصير للإخوة الإريتريين الذين نظموا سمينار في كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية، وقدمت لهم بعدها ورقة مختصرة للغاية تجيب على سؤال لماذا التمسك باللغة العربية. وهناك أقول إن رفض اللغة العربية في إريتريا يقف وراءه تفكير طائفي يتسم بالتجرإ على الحقوق الديمقراطية للآخرين، بل وعدم احترام وجودهم من الأساس، وبالتالي فضح هذه العقلية أمر لا بد منه، للانتصار لهذا الحق الدستوري الذي ارتضاه المسلمون الإرتريون لأنفسهم. لن ينتهي الصراع حول هذا الموضوع، وسيتكرر بشكل محزن ومأساوي في المستقبل أيضًا بين حين وآخر، وبشكل مستفز للمشاعر في الكثير من المواقف والأحيان، بحيث يجعلنا ننفعل ونتصرف بنوع من فقدان التوازن، لأننا لم نُعلِّم شركاءنا في الوطن أن السلم الأهلي، ووجود الكيان الإرتري نفسه، مرهون بمراعاة مثل هذه الحقوق، وهدرها هو هدر للوجود والكيان الإرتري.
6/ ظواهر كثيرة تطل برأسها في هذا الأفق الملبد.. هذه الظواهر تفسر الأزمة الإريترية تفسيرًا طائفيًّا أحيانًا وإقليميًّا حينًا آخر .. مثل مرتفعات ومنخفضات .. إلخ وتصل إلى خلاصات تقول بانعدام الثقة بين المسلمين والمسيحيين، وتشير إلى فشل الثورة الإريترية التي أنتجت ما نحن فيه، وتبحث عن حلول خارج الإطار الوطني، ودونك ظاهرة تسافظيون وغيرها، فما رأيك؟
للإجابة على هذا السؤال يجب التأكيد على أن تفسير أية ظاهرة لا يعني أحتكار الحقيقية، وبمجرد الإقرار بأن هذا هو تفسيري “أنا” للظاهرة، معنى ذلك أنني أقر ضمنيًّا وجود تفسيرات أخرى مخالفة لتفسيري، وقد تختلف أو تتفق معي بصورة جزئية أو كلية، ولا مجال هنا للحديث عن مطلقات، لأن فيها نفي للآخر ولحقه في الوجود، لأن الوجود لا يترجم نفسه إلا عبر مواقف ومبادئ يتبناها المرأ ويتصدى لها. التفسير الطائفي أو القبلي أو الإقليمي للظواهر، ووضع معالجات لها بناءً على هذا التفسير، كان وراء فشل الكثير من المبادرات، وتعتبر الجبهة الشعبية إلى حد ما ترجمة لهذا الأمر، وأنا هنا لا أتحدث عن “قوات التحرير الشعبية”، قبل انقلاب الجبهة الشعبية عليها، والتي كانت مثلها مثل جبهة التحرير الإريترية، تعكس التركيبة الوطنية الإريترية في علاقاتها الداخلية والخارجية، أكثر مما أصبحت الجبهة الشعبية تمثله لاحقًا، والتي اتضح أنها كانت انقلابًا على هذا التراث الوطني. لا أحد يستطيع أن يدعي أن الانشقاقات التي حدثت في جسم الثورة الإريترية، والتي دفع المسلم الإريتري بالدرجة الأولى ضريبتها الباهظة أنها كانت تخلو من ملامح قبلية وإقليمية، لكن الوليد الذي نجم عن هذه التفاعلات وأوصلنا إلى الجبهة الشعبية بوضعها الحالي أمر يحتاج إلى مراجعات دقيقة، والأوراق التي كشفها الوطنيون الذي هربوا من النظام الإريتري فيها حقائق مدهشة تصعق العقول في الكيفية التي تسنى بها لهذا التيار الذي كان يقوده إسياس من السيطرة على الأوضاع بهذه الصورة المحكمة وتوجيه دفتها. ورغم أنني استمعت إلى الكثير من تلك الشهادات، إلا أنني ما زلت حائرًا في الطريقة التي تمكن إسياس من خلالها من تصفيه أصدقائه قبل خصومه، ليسيطر على الواقع بهذه الطريقة الشيطانية.
الشرخ الطائفي الذي أحدثته ممارسات الحكومة الإريترية منذ صبيحة التحرير كان يلقى رواجًا واستحسانًا من الكثيرين من أعضاء الجبهة الشعبية في البداية، ثم أصبح الارتصاص داخل الجبهة الشعبية نفسها يأخذ طابعًا طائفيًّا بعد أن كان تنظيميًّا، والتجربة العملية لمن رفضوا هذا النهج داخل الجبهة الشعبية تؤكد على أن معاناتهم من هذه العقلية لم تكن أقل من بقية الناس الذين كانوا خارج الجبهة الشعبية. السؤال الذي يطرح نفسه هو ما الذي حدث بعد انكسار جبهة التحرير الإريترية التي كانت تمثل تنظيمًا وطنيًّا كان يتمتع بالتمثيل العريض. انكسار الجبهة أيضًا كشف عن عقلية الاصطفاف القبلي والإقليمي والطائفي. هذه الاصطفافات تنعكس اليوم على مجمل الحراك السياسي الذي أعقب الاستقلال في عمل المعارضة. الكثير من المجتمعات جعلت من التعدد منحة وليس محنة، أما ما جناه مجتمعنا الإريتري يعتبر في الغالب الأعم محن وليس منح أو نعم لهذا التعدد. ونجد الثقة بين مكونات الشعب الإريتري اليوم في أدنى مستوياتها لأسباب متباينة منها ما هو طائفي، وهو الغالب الأعم، ومنها أيضًا ما هو قبلي وإقليمي، ويمارسها الجميع دون حياء، ويتهم غيره بممارستها وكأنه بريء منها. قرأت ذات مرة مقولة بسيطة ولكنها تتسم بالعمق وتقول ” لا يمكن محاربة الطائفية في مجتمعاتنا، ومثلها القبلية والإقليمية، حتى يقوم كل واحد منا بتفكيك قبليته وإقليميته وطائفيته هو”. بمعنى الوعي يسبق الفعل ليصبح الفعل واعيًا، ونحن إلى حد ما ينعدم عندنا هذا الوعي العملي، ويمكن أن تجد عند الأفراد وعي نظري بمخاطر ومزالق التفكير الضيق، لكن السؤال يبقى: هل يعمل كل منا على تفكيك طائفيته وقبليته هو بالدرجة الأولى قبل أن ينبري في اتهام الآخرين.
وبمناسبة إثارتك لموضوع تسفاظيون الذي يوجه إساءاته من بريطانيا في حلقات متواصلة، ولم يتوقف عند الإساءة بل تجاوزها إلى التحريض على المسلمين لطردهم من إريتريا، والاستيلاء على مناطقهم بحجة أنها تعود للأحباش المسيحيين تاريخيًّا، وتم إجلاؤهم منها بالقوة، ويدعو إخوته التجرينيين من تجراي لاسترداد هذه الحقوق وهذه الأراضي التي تعود ملكيتها التاريخية إليهم. هذا المعتوه ينشر أكاذيبه دون حياء، ليعيد تاريخ يوهانس وألولا ووبيي، ويحلم بإرجاع عجلة التاريخ للوراء، ليكرر نفس العقلية التوسعية العدائية الظالمة في هذا الزمن. ولدى مناقشتي مع بعض الأشخاص الأفكار التي ينادي بها تسفاظيون المعتوه والمجهول الأصل والهوية، قال لي أحد الإخوة المسيحيين إن هناك تيارات كنسية مسيحية متطرفة يعرفها هو، وتحمل نفس هذه الأفكار، توفر لمثل هؤلاء الدعم المادي والمعنوي ليتفرغوا في بث سمومهم هذه التي تعتبر الأرضية الخصبة لفعل ما هم يخططون للقيام به في المستقبل وبدعم خارجي، لأن إريتريا بشريطها الساحلي الطويل الذي تتمتع به تعتبر قاعدة هامة وقوية لخلق حالة من عدم الاستقرار في المنطقة، وخاصة في الدول العربية والإسلامية المقابلة لإريتريا أو المجاورة لها على الساحل الأفريقي للبحر الأحمر، وإخوتنا العرب والمسلمون ينامون ولا يستشعرون بالخطر الذي يحاك لهم ويحاك لنا، ولا يدركون أهمية إريتريا من ناحية موقعها الاستراتيجي على مستقبلهم.
وأخ آخر شبه تسفاظيون بما كان يبث من إعلام الكراهية لدى الهوتو في رواندا، وصور لهم التوتسي بأنهم حشرات ضارة (صراصير وثعابين) يجب التخلص منها، وهذه كانت البداية أو المقدمة للمجزرة الفظيعة التي وقعت بحق التوتسي. بالإمكان مقاضاة هذا الرجل وجره في المحاكم حيث يعيش في بريطانيا لو تضافرت الجهود، وتم ترجمة ما يبثه من إعلام الكراهية وعمليات التحريض والإساءة والدعوة إلى القتل والعدوان التي يروج لها إلى اللغات الحية، والسؤال هو: ما هي الجهة أو من الأشخاص الذين بإمكانهم التصدي لهذا المعتوه وجرجرته إلى المحاكم حتى تنعدم عنده راحة البال، ولا يهرف بما لا يعرف، وليلزم حدوده. هذا الموقف أيضًا يظهر فيه ضعفنا وهواننا على شركائنا في الوطن، لكنه جيد في نفس الوقت لأن ذلك ينبهنا لمدى التطرف الذي بلغه البعض.
7/ باعتبارك واحد من الأكاديمين والمثقفين الإريترين في الخارج والذين يقرأون بعدة لغات، كيف ترسم لنا بشكل عام صورة الأدب الإريتري؟أنا متفائل للغاية بالتطور الذي نشهده في الساحة الثقافية، فوجود كتابات إريترية ممتازة ومتميزة وفي فترة قصيرة نسبيًّا من عمر الأدب الإريتري يبعث على التفاؤل. أنا أؤمن بأن ساحة التلاقح الثقافي في إريتريا الديمقراطية ستكون مفتوحة، ويمكن للثقافة العربية أن تنمو وتزدهر في فترة وجيزة نسبيًّا وبصورة كبيرة. وأنا أعقد الأمل على ثلاثة مجالات يمكن حدوث طفرة نوعية فيها والتي تم تمهيد الأرضية لها، وهذه هي الرواية، والقصة القصيرة، والشعر. واليوم والحمد لله لدينا كتاب متميزون في هذه المجالات، من بينهم أنت يا أستاذ جمال، وأنا أعتبرك كاتبًا متميزًا للقصة القصيرة في ساحة الأدب الإريتري المكتوب باللغة العربية. وهناك روائيون وشعراء ممتازون، قرأت أشعارهم ورواياتهم وسعيد بها للغاية.هناك فكرة ظلت تراودني طوال الفترة الماضية وناقشتها مع عدد من الإخوة، وأنا هنا أنتهز المناسبة لأطرحها، وهي فكرة إنشاء صندوق إريتري لدعم الفنون والآداب. وتندرج كل هذه تحت مسمى الثقافة، وبالتالي يمكن تسميته أيضًا بصندوق دعم الثقافة في إريتريا. لو تمكنا من إنشاء مثل هذا الصندوق وتكفل هذا الصندوق بعد أن يصل رأس ماله حدًّا معينًا بطبع خمسة أعمال أدبية إريترية سنويًّا في البداية، مثل مجموعات القصص القصيرة والدواوين الشعرية والروايات، فسيكون لهذا الصندوق دور طليعي في إرساء دعائم الثقافة العربية في إريتريا. ويمكن أن يكون هذا الصندوق عبارة عن فكرة استثمارية يعمل بفكرة الربح، أو أن تتبناه جهات مقتدرة مهتمة بالثقافة بعيدًا عن التفكير الربحي، وتجعله صندوقًا داعمًا لنفسه بنفسه حتى تضمن استمراريته، فالعبرة بالاستمرارية والديمومة، وليس ببدء المشروع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى